فلسفة الثنائيات و إسقاطاتها كردياً

آراء وقضايا 17 يوليو 2016 0
فلسفة الثنائيات و إسقاطاتها كردياً
+ = -

المهندس صلاح علمداري.

.
المُثنّى لغةً هو اقتران مفردين , والثنائية هي جدلية العلاقة بينهما , وهي ليست قاعدة عامة في الوجود إلا أنها تظهر في حالات وأشكال عديدة , ثمة ثنائيات حميدة منتجة, و ثنائيات غير حميدة هدامة, وأحياناً يستعصي على الإنسان فهم الظواهر والحالات دون اللجوء إلى إجراء مقارنة بين اثنتين منها متضادتين أو مكمّلتين لبعضهما, هناك ثنائيات موجودة في الطبيعة كالماء والنار, والليل والنهار .. و ثنائيات أوجدها الإنسان كفلسفة وجوديةٍ و سببٍ لاستمرار الحياة, كالخير والشر, و الشيطان والرحمن … وهي في المقارنة الأولى تُفني بعضها, أي العلاقة بين الماء والنار, و بين الخير والشر هي الإلغاء , وفي المقارنة الثانية هي علاقة تكاملية, إذ لا معنى لحياة كلها ظلام وسكون ,كما لا معنى لحياة كلها ضوء وضوضاء, الليل إذاً يكمل دورة الزمن بوجود النهار , كما أن وجود الشيطان في الجانب الروحاني في العديد من الثقافات مرتبط بالرحمن بعلاقة جدلية بحيث يبرر أحدهم وجود الآخر, على ذلك لجأ الإنسان إلى إجراء مقارنات وإنشاء ثنائيات منتجة وفق علاقة تحريضية أو تكاملية, فالقطبية السالبة والموجبة تنتجان معاً طاقة إيجابية هائلة , و تكامل الذكورة مع الأنوثة يؤمن الخصوبة و ينتج النسل لدوام الاستمرارية, في حين تعجز الحالة الفردية ( اللا ثنائية ) تماماً عن تحقيق نفس النتيجة في الحالتين.

.
علماء الاجتماع و النفس استفادوا أيضاً من فلسفة الثنائيات الخلاقة واستثمروها في تربية الأطفال و توسيع مداركهم من خلال أفلام الكرتون , مثلاً وليس حصراً ثنائية زينغو و رينغو التكاملية ( قطبين يكملان بعضهما في الإبداع) , أو توم و جيري التحريضية ( يحفزان بعضهما على الإبداع) .

.
في السياسية وأيضاً في الاقتصاد ,حقق الاقتران الخلاق ازدهاراً ونمواً في مجتمعات عديدة, من خلال إقرار كل قطب بضرورة وجود الآخر المنافس أو المكمّل , بل و أحياناً استثمار طرف لنده (خصمه) بمثابة مرآة تعكس أداءه , وهذا ما أعطى مردوداً أفضل .

.
الثنائيات الكردية في السياسة حتى الآن هي ثنائيات غير خلاقة, والعلاقة التي تربط القطبين أو المحورين ليست تكاملية ولا تحريضية تنافسية بقدر ما هي مساعي يبذلها كل طرف لإلغاء الآخر , وبالتالي مردود أدائها السياسي على الأرض بقي دون سقف المصالح الاستراتيجية للكرد .

.
ثنائية الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني تسببت في فترة ما بسفك الدم الكردي على يد الكرد أنفسهم,و الصراع الذي لم ينتهي بين القطبين على مدار السنوات الماضية هو سبب عجز حكومات إقليم كردستان عن تجاوز سلطة الأحزاب و مفهوم الأحقية, و عن تخطي مرحلة التحرير والبدء بمرحلة البناء التحتي لدولة مستقبلية , وثنائية الديمقراطي الكردستاني والعمال الكردستاني تتحمل اليوم مسؤولية الاحتقان المتصاعد ضمن البيت الكردستاني, حيث لم يتوانى أحد القطبين ( بالأمس واليوم ) عن تسويق القطب الآخر (الند) على أنه سبب كل فشل قومي , فيكيل له تهماً تصل أحياناً إلى درجة الخيانة الوطنية والقومية, مستعيناً في ذلك – غالباً– بقوى إقليمية أو بدول الجوار المغتصبة لكردستان نفسها … وهنا المفارقة !.

.
جشع النفوذ والمصالح الحزبية لدى الطرفين , المغطّى بلّبوس القومية , و المسوّق كضرورة استراتيجية ! يتصادم و يحوّل الصراع المفترض بين الكرد كجماعة من جهة, و مستعبديهم من الجهة الأخرى, إلى صراع داخلي بين الكرد أنفسهم يتحكم فيه المستعبِدون ! …وهنا الغرابة !.

.
منطقة شرق المتوسط لا زالت مشمولة باهتمام القوى الكبرى وخاضعة لنفوذها بشكل أو بآخر , كردستان التاريخية محاصرة بين أربعة دول تقع ضمن هذا المجال الحيوي ولا منفذ آخر لها , القوى العظمى التي رسمت حدود دول المنطقة قبل مائة عام , لم تقرر بعد إلغاءها رغم الفشل الذي منيت به أنظمة هذه الدول , صانعوا السياسة الدولية قد يستثمرون اليوم في الحضور الكردي المُلفت خلال السنوات الأخيرة, و قد لا ترفض الدول العظمى فكرة إدارات كردية ضمن حدود تلك الدول, لكنها لن تجلب لنفسها عداوة باقي شعوب ودول المنطقة ولن تتحمل تبعات ذلك ,بوضع كل بيضها في السلة الكردية, لمجرد حضورهم الجميل في زمن قبيح , ولن تدعم الكرد في مشاريع ومغامرات أكبر حجماً من الفرصة المتاحة .

.
تجربة الفيدرالية في إقليم كردستان العراق(باشور ) تحول إلى انجاز قومي يحظى اليوم بمساندة دول كثيرة , على الكرد حمايته بشتى الوسائل, لا بأس حتى وان تصدر المشهد منظومة الديمقراطي الكردستاني على الآخرين لفترة زمنية, لكن هذا الانجاز لم يتحقق رغم بطولات الكرد ودفاعهم عن حقوقهم هناك على مدار عقود, إلا بعد أن سقطت سلطة بغداد أخلاقياً , فنضجت جملة عوامل موضوعية , التقت مع العامل الذاتي ( الداخلي) وتحقق الحلم .

.
بعد أقل من ثلاثة عقود ها هو إقليم (روز- آفا) الفيدرالي قاب قوسين أو أدنى , بعد سقوط نظام دمشق أخلاقياً أيضاً, وهو أيضاً انجاز كردستاني وقومي يجب حمايته حتى وإن تم إنجازه بجهود وتضحيات منظومة العمال الكردستاني ( تف-دم) أكثر من جهود الأطر الأخرى , ما حدث في كردستان العراق ( باشور) ,وما يحدث الآن في المناطق الكردية في سوريا (روز-آفا) ,هو ثورة و حرب و تحرير …لا يجب القفز فوق استثنائية أحكامها ,و ضرورات مرحلتها, وإخضاعها مباشرة لمعايير الديمقراطية الغربية والحقوق وتداول السلطات… و لا يجب أن يطغى صراع الأحزاب من أجل السلطة على قضية تثبيت أركان كينونة متأصلة ( الكردياتي) غيبتها ظروف تاريخية ما, في هذه البقعة الهامة , تلملم اليوم شتاتها وتعيد إثبات ذاتها وجدارتها بحياة حرة كريمة , وهذا لا يلغي النقد البناء والتصويب وتحميل الحزبين الرئيسيين في باشور مسؤولية التقصير أو التأخير في إنجاز مؤسسات عامة على مدار أكثر من عقدين .

.
إضافة إلى المزاج الكردي العام غير المشجّع فإن مشروع الدولة التشاركية أو الأمة الديمقراطية الذي تطرحه تف-دم لا يناسب زمن إثبات الذات بقدر ما هو رؤية تحتاج إلى زمن مرفه كتجربة الإتحاد الأوربي , أهم شروطها هو مشاركة المكونات المتداخلة مع الكرد أو المجاورة لهم فيها, وهذا ليس مضموناً نهائياً بسبب ارتباطات تاريخية حيوية لهذه المكونات مع عمقها الأقوى ضمن كل دولة , و الدولة القومية المزمع إعلانها عبر استفتاء في الإقليم الجنوبي ما زالت رؤية طرف بعينه ترفضها غالبية النخبة السياسية الكردية قبل نظام بغداد والمحيط الإقليمي و الدول الكبرى.

.
الإقليمان ( باشور و روز-آفا) متجاوران و يشكلان معاً – إضافة إلى المشتركات – فضاءً اقتصادياً شبه متكامل, سيما إذا اقتربت حدود الإقليم الغربي من البحر, ترسيخ النظام الفيدرالي في كل من سوريا والعراق مهم جداً وإنضاج تجربتي الإدارة الكرديتين إلى جوار بعضهما – وفق رؤيتين ولو مختلفتين- مهم جداً واستراتيجي جداً , فالأهم هو إنتاجية العلاقة التي تربطهما ( تنافسية , تحفيزية ) والبدء بمرحلة البناء التحتي والمؤسسات وتنافس الرؤى والمشاريع التنموية … في الوقت الذي يجب أن نسلّم فيه بأن أي من المنظومتين لا تستطيع إلغاء الثانية , ولا تستطيع إدارة زمام الإقليمين معاً .

.

جدير بالذكر هنا أن في كل من إيران وتركيا قد يتكرر السيناريو نفسه أو ما شابه ولكن في فترات لاحقة.
.
القطبان الرئيسيان اللذان يتصدران المشهد الكردستاني اليوم يسبقان الزمن في هرولة إلى الأمام عندما يقفزان من فوق كومة من الاستحقاقات الملحة وحزمة من المشتركات و يتشبثان بالاختلاف حول مواصفات مولود لم يلد بعد ! و تنبؤٍ لن يحدث غداً على أقل تقدير , ونقصد شكل الدولة الكردستانية , فكما أن مقومات إقليم كردستان العراق لا تشجع اليوم على إعلان دولة مستقلة – من وجهة نظرنا – كذلك توحي تجربة حركة المجتمع الديمقراطي في إدارة إقليم روز-آفا من خلال تفردها المتزمت, حيث العقلية الإدارية – في الطرفين- لم تتجاوز مرحلة مبارزات حزبية و شعارات قومية , لم يرتق القائمون عليهما إلى مرحلة البناء التحتي و الاستراتيجية , أي أن السياسة الكردية في الإدارتين لا زالت تعيش مرحلة “ما تحت الدولة ” غير قادرة على بناء مؤسسات مدنية عصرية , و من الإجحاف بحق الكرد بعد كل التضحيات والحرمان, وكل التشوّق, أن يصطدموا بكيان مشوه أو غير قابل للحياة والاستمرار ,

.
القطبان مطالبان اليوم من قبل الكرد بوضع حد لمبارزاتهما غير المشوّقة , وبإعادة قراءة المشهد السياسي في المنطقة, وتوجهات السياسة العالمية, وتدارك اللحظة التاريخية, فهما الوحيدان المسؤولان أخلاقياً عن أي تراجع أو انتكاسة يتعرض لها المشهد الكردي والمكتسبات المتحققة في الإقليمين , ومطالبان اليوم قبل الغد بحوار جاد وبمشاركة جميع القوى والإمكانات والخبرات المتاحة للاتفاق على المصالح الاستراتيجية و تخلّي كل طرف عن نزعة التمدد إلى الأجزاء الأخرى من كردستان و التبرؤ من داء صناعة التوابع , وإقرار كل طرف بإمكانيات الآخر, والحفاظ على الإقليمين المتجاورين دون تدخل أحدهما في الشؤون الداخلية للطرف الآخر والدفع باتجاه جعل الإقليمين كقطبين يكمل أحدهما الآخر أو يحفزان بعضهما على توليد طاقة اقتصادية أقوى وخبرة إدارية أكبر تكتمل بها أركان دولة كردستان القادمة لا محال .

.
و أخيراً فإن الثنائيات لا تلغي حالات الوسط و ظهور قوى أخرى فاعلة خارج إطار تنافسها, لكن الضعيف (نسبياً) عادة ما يصطف مع أحد الأقطاب, و الثنائيات نفسها قد تتغير بسبب عجزها أو عجز أحد أقطابها عن تلبية متطلبات مرحلة تاريخية ما , يلاحظ ذلك في تلاشي دور ما كان يعرف بالإتحاد السوفيتي كقطب في ثنائية عالمية قبل ربع قرن من الزمن و محاولات روسيا الاتحادية و دول أخرى لتحل محلها, وتراجع التيار القومي المتشدد في السياسة العالمية لصالح الانفتاح والتيار الديمقراطي.

آخر التحديثات
  • أتبعني على تويتر

  • تابعونا على الفيسبوك