أبعاد الصراع التركي – الروسي وتداعياته
كوردستريت- السياسة الدولية / كانت العلاقات التركية – الروسية، علي مدي تاريخها، عدائية، أو -علي الأقل -غير سلمية، إذ تثير الحروب الروسية (القيصرية)- التركية (العثمانية) ذكريات مريرة بين الجانبين، فقد دارت حروب ومعارك طويلا بينهما، علي مدي خمسة قرون. فموسكو التي كانت تعدّ نفسها “روما الثالثة”، لم تنس أن العثمانيين هم من أسقطوا “روما الثانية” (القسطنطينية)، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية عام .1453 ومنذ دخول الإمبراطورية العثمانية مرحلة الضعف والتدهور، بداية من القرن الثامن عشر، لعبت روسيا القيصرية دورا مهما في تقويض مناطق سيطرتها ونفوذها في القوقاز وآسيا الوسطي.
.
ورغم التحسن النسبي في العلاقات بين تركيا والاتحاد السوفيتي السابق في سنوات الجمهورية التركية الأولي، قبل بداية الحرب العالمية الثانية، فقد عاد الاتحاد السوفيتي مجددا ليشكل تهديدا لأمن تركيا القومي، وليصبح “عدوا للأتراك”، ولذا قررت تركيا الانحياز إلي الغرب، خلال الحرب الباردة، وأنضمت إلي حلف “الناتو” عام 1952، لتصبح الذراع العسكرية المحتملة للغرب في خطوط المواجهة الأمامية للسوفيت ودول حلف “وارسو”.
ومنذ نهاية الحرب الباردة، صار التحول في العلاقات التركية – الروسية أمرا لا مفر منه، إذ رأت فيه تركيا فرصة استراتيجية لا تعوض، فسارعت لالتقاطها ولعبها باحتراف. ونتيجة لذلك، حدث تطور في العلاقات الديبلوماسية والاقتصادية، وتم تعزيزها من خلال معاهدة تم توقيعها في 25 مايو .1992
ورغم أن مناطق، مثل القوقاز وآسيا الوسطي، أصبحت بطبيعة الحال مجالا للتنافس بين روسيا وتركيا في حقبة ما بعد الحرب الباردة، فقد تمكنت كل من أنقرة وموسكو من إيجاد أرضية مشتركة لتطوير الفرص المتبادلة، واتجهت العلاقات الروسية – التركية نحو مرحلة أكثر واقعية، من شأنها أن تركز أساسا علي التعاون بدلا من الصراع. ولذلك، تم توقيع “خطة العمل” المشتركة للتعاون بين البلدين في نوفمبر 2001، وهي الوثيقة الرسمية الأولي التي تضمنت “بناء شراكة متعددة الأبعاد” بين أنقرة وموسكو. وتزامن تقريبا تولي الرئيس فلاديمير بوتين للرئاسة في روسيا للمرة الأولي، في مارس 2000، مع تولي حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان للحكم في تركيا في عام 2002، حيث عمل رئيس الوزراء التركي الجديد، حينئذ، بشكل حثيث علي تطوير التعاون مع روسيا وتوسيعه منذ عام 2003. وقد نما التبادل التجاري بين تركيا وروسيا أكثر من عشرة أمثاله خلال عقد واحد، إضافة إلي توطيد شراكة استراتيجية بين البلدين. ففي أغسطس عام 2008، دعمت أنقرة موسكو في صراعها مع جورجيا، إضافة إلي عدد من القضايا السياسية الأخري. لكن ثورات الربيع العربي أحدثت خلافات عميقة في السياسات الروسية- التركية. ففي حين رأت روسيا أن هذه الثورات “خطر” يهدد بنشر الفوضي والاضطراب في منطقة الشرق الأوسط، ومحاولة غربية لإعادة تشكيل خريطتها بما يتوافق مع الاستراتيجية الأمريكية، فإن تركيا رأت فيها “فرصة” لدعم نفوذها فيها، عبر قوي الإسلام السياسي، وتنظيرات “العثمانية الجديدة”. وقد شغلت سوريا موقعا بارزا في هذا السجال بين وجهتي النظر الروسية والتركية.
.
ورغم ذلك، لم تتوقف اللقاءات رفيعة المستوي بين الجانبين، منذ زيارة الرئيس بوتين الأولي إلي أنقرة عام 2004، وكان آخرها زيارة أردوغان لروسيا، ومشاركته في حفل افتتاح مسجد موسكو في أواخر سبتمبر .2015
.
وقد عُدّت العلاقات الروسية – التركية نموذجا للبراجماتية السياسية، حيث اختلفت مواقف البلدين إزاء بعض القضايا من دون أن يؤثر ذلك في مجمل التطور الحادث في العلاقة بينهما.
.
أولا- أبعاد التصعيد التركي – الروسي:
.
هدد التدخل الروسي في سوريا، في نهاية سبتمبر 2015، الاستراتيجية التركية في المنطقة عموما، والأهداف التي تسعي أنقرة إلي تحقيقها منذ اندلاع الثورة السورية في مارس 2011 بصفة خاصة.
.
وقد جاء إسقاط تركيا للطائرة الحربية الروسية، في 24 نوفمبر 2015، ليشكل ضربة قاصمة للعلاقات الروسية- التركية، وهو ما يطرح تساؤلات حول أبعاد هذه الخطوة التصعيدية التركية، في مقدمتها التساؤل عن توقيتها. فلم يكن هذا أول اختراق روسي للأجواء التركية. فمنذ أن بدأت الضربات الجوية الروسية في سوريا في 30 سبتمبر 2015، وتركيا تشتكي من الاختراقات المتكررة لسيادتها، وهددت أكثر من مرة بأنها سترد علي تلك الخروقات. وبالفعل، أسقطت الدفاعات الجوية التركية، منتصف أكتوبر 2015، طائرة استطلاع بدون طيار، قالت أنقرة إنها روسية، لكن موسكو نفت تبعيتها لها.
.
لكن الوضع اختلف عشية حادث إسقاط الطائرة الثانية. فمن ناحية أولي، فاز الحزب الحاكم في تركيا فوزا صريحا في الانتخابات العامة التي أجريت في بداية نوفمبر 2015، وبات قادرا علي تشكيل الحكومة الجديدة بمفرده، وقد تشكلت فعلا في اليوم نفسه الذي تم فيه إسقاط الطائرة الروسية، واستعاد الرئيس أردوغان سيطرته علي المشهد السياسي الداخلي، بعد أشهر من عدم الاستقرار السياسي، وبات في مقدوره اتخاذ قرارات كبيرة من غير أن يخشي انعكاس آثارها علي التناقضات السياسية الداخلية.
.
ومن ناحية أخري، وهي الأهم من زاوية المصالح الاستراتيجية لتركيا وأمنها القومي، خرج اجتماع فيينا حول الأزمة السورية، في 14 نوفمبر 2015، بتوافق إقليمي دولي، كثيرا ما كان صعب المنال، حول خريطة طريق ملموسة، ومزودة بجدول زمني لحل سياسي. ودفع ذلك الأطراف المتصارعة للسعي إلي تحسين موقعها التفاوضي قبل الجلوس حول الطاولة، ومحاولة تعديل موازين القوي علي الأرض.
كما ارتبط حادث الطائرة أيضا بتقديم روسيا عرضا للحكومة العراقية بالمشاركة في الحرب ضد تنظيم “داعش”، وهو ما يعني دعم التوسع العسكري الروسي بالقرب من الحدود التركية، لاسيما مع الإعلان عن تأسيس تعاون استخباراتي بين روسيا، والعراق، وإيران، وسوريا في سبتمبر.2015
.
ثانيا- تداعيات الرد الروسي:
.
رأت موسكو في إسقاط طائرتها جريمة لا يمكن أن تمر بدون عواقب وخيمة علي تركيا، مهما يبلغ حجم المصالح التجارية بين البلدين وأهميتها”.
.
فقد كان من الصعب أن يتغاضي الكرملين سريعا عن الحادث بحسبانه يتعلق بالكرامة الوطنية، وإلا فستغامر موسكو بفقدان هيبتها الدولية. كما أن إسقاط طائرة روسية بطائرة أمريكية الصنع يهدد سمعة روسيا في سوق السلاح العالمية، والتي حرصت دوما علي تعزيز قدراتها التنافسية فيها، وتعد ثاني أكبر مصدر للسلاح، وتستأثر بأكثر من 26٪ من إجمالي صادرات السلاح في العالم.
لذا، اتجهت موسكو إلي التصعيد، حيث أصدر الرئيس بوتين مرسوما تضمن مجموعة من الإجراءات الاقتصادية، مثل حظر استيراد عدد من السلع والبضائع التركية، وحظر العمليات التجارية والاقتصادية المرتبطة بذلك، ومنع الشركات التركية من ممارسة أي نشاط داخل روسيا، ومنع استخدام الأيدي العاملة التركية، وإيقاف العمل بنظام الإعفاء من تأشيرات الدخول مع تركيا، بدءا من مطلع 2016، وكذلك وقف رحلات الطيران التجاري (شارتر) مع تركيا، وحظر الرحلات السياحية الروسية لتركيا، وتشديد الرقابة علي تلك القادمة من تركيا.
.
وعلي الصعيد العسكري، قطعت وزارة الدفاع الروسية كل الاتصالات العسكرية بين الجانبين، وأوقفت الخط الساخن بينهما، وسحبت ممثل أسطولها الحربي في تركيا الذي ينسق عمل أسطول البحر الأسود، ووضعت الطراد “موسكو” المزود بمنظومة صواريخ “فورت” المضادة للطائرات (المماثلة لمنظومة “إس-300”) في ساحل اللاذقية.
.
وأعلنت روسيا عن نشر نظام الدفاع الجوي الأحدث في العالم حاليا، والمعروف باسم “إس 400”، في مطار حميميم العسكري بريف اللاذقية، في رسالة روسية، مفادها أنها لن تتواني عن الرد بالمثل ضد أي طائرة تركية قد تخترق الأجواء السورية. ويعني ذلك أن روسيا قد فرضت عمليا حظرا جويا أو “جدارا ناريا” علي الطائرات غير المرغوب بها في دائرة نصف قطرها 400 كيلومتر، ومركزها في مطار حميميم. وبالتالي، يشمل هذا الإجراء كامل الأجواء السورية باستثناء مناطق محدودة في الشرق والجنوب، وأجواء كامل لبنان، وشرق البحر المتوسط، وقبرص، ومناطق شمال إسرائيل، وجنوب تركيا.
.
وفي ظل استبعاد اللجوء إلي الخيار العسكري المباشر، تستخدم موسكو الحرب بالوكالة في كل من سوريا والعراق. فمع بداية التدخل العسكري الروسي في سوريا، بدا أن غزلا روسيا يتدفق باتجاه أكراد سوريا، خاصة بعد أن أصبحوا رقما صعبا ومهما في شمال سوريا وشرقها. وبعد إسقاط الطائرة الروسية، تنامي لدي موسكو خيار استخدام الورقة الكردية في هذا الصراع بقوة، فقد أعلنت روسيا رفضها وصف حزب العمال الكردستاني بالإرهاب، كما هو مصنف أمريكيا، وأوروبيا، وتركيا، بل طُرحت لأول مرة بمجلس الدوما قضية تسليح “العمال الكردستاني” بأسلحة متطورة.
.
وإذا وضعنا في الحسبان تدهور العلاقة في الوقت الراهن بين الحكومة التركية و”حزب العمال الكردستاني”، فإن ذلك قد يغري موسكو بمحاولة توظيف الورقة الكردية في الضغط علي أنقرة، برغم أن مسعود البرزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، يحتفظ بعلاقات إيجابية طيبة مع الأتراك والأمريكيين، الأمر الذي قد يشكل عقبة في طريق ذلك المسعي، إذا أرادت روسيا اللجوء إليه. ولا ينسي في هذا الصدد أيضا وجود أقلية كردية في إيران التي تمثل حساسيتها إزاء هذا الملف عقبة أخري، لأن مخاوف طهران من إقامة دولة كردية لا تقل عما يسببه ذلك من قلق لدي تركيا.
وعلي الرغم من خطورة التوتر الأخير بين روسيا وتركيا، واحتمالات تصاعده، فإنه سيبقي ضمن سياقات محدودة، يمكن السيطرة عليها، فالبلدان لا يحتملان مواجهة مفتوحة، بدون أن يعني ذلك أنه لن تكون هناك ضربات متبادلة “تحت الحزام”.
.
فمن ناحية أولي، إذا كانت الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها موسكو ضد أنقرة بشكل فوري، ومن دون تفكر أو تدبر، قد أكدت أن سياسات “الجغرافيا السياسية” تعلو علي علاقات التعاون الاقتصادي، فقد أظهرت هذه الأزمة أن وصول التعاون الاقتصادي إلي مستوي معين يمكن أن يساعد في وضع سقف لتصاعد الأزمة “الجيوسياسية”. فإذا كان كل هذا التعاون الاقتصادي بين موسكو وأنقرة لم يحل دون بلوغ الصراع بينهما حافة الهاوية، فقد وضع حدا لانفلاته، وأضعف احتمال الانزلاق إلي هاوية الحرب التي وقف العالم علي حافتها.
.
ومن ناحية ثانية، صحيح أن جميع التصرفات والتصريحات الصادرة من موسكو توحي بنبرة عسكرية، ملؤها الوعيد والتهديد، لكن الأكيد يبقي أن المواجهة المباشرة تبدو مستبعدة جدا، إذ إن الغرب لن يترك أنقرة وحيدة، عندما يتعلق الأمر بموسكو..
.
ومن ناحية ثالثة، وفي حين أن هناك تلميحات روسية ضمنية حول إمكانية لجوء موسكو إلي تعزيز موقف الأكراد المناوئين لأنقرة، وتسليحهم، ثمة تلميحات تركية مقابلة بأن الرد التركي قد يكون بتقديم أسلحة نوعية، بما فيها مضادات جوية للمعارضة السورية، يمكنها أن تحد من فعالية سلاح الجو الروسي، وتغير المعادلات العسكرية مع النظام السوري علي الأرض.
ومن ناحية رابعة وأخيرة، فإن استخدام الروس لورقة الأقليات في الضغط علي تركيا خيار لا يخلو من مغامرة، إذ قد يدفع أنقرة إلي الرد بتشجيع المسلمين السنة داخل الاتحاد الروسي بدورهم علي التمرد، وإزعاج حكومة موسكو.
.
ثالثا- ردود الفعل الأطلسية:
.
جاء رد فعل حلفاء أنقرة في الحلف الأطلسي علي حادث إسقاط تركيا للطائرة الروسية محفزا لسياسة “ضبط النفس”، و”التهدئة”، و”عدم التصعيد”، وفشلت جهود تركيا في استنفار “الناتو” لمساندتها. فقد حث الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرج، علي “التزام الهدوء لتفادي تصعيد الوضع”. كما لم تبد واشنطن أي خطوة جادة لدعم تركيا. وأتم الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، زيارته إلي موسكو في 26 نوفمبر 2015، وأكد أهمية عدم التصعيد.
.
لكن في ظل استمرار التصعيد بين موسكو وأنقرة، أعلنت القوي الغربية و”الناتو” التزامهما بأمن تركيا، وإمدادها بمعدات عسكرية جديدة، و(إعادة) نشر منظومة صواريخ باتريوت علي أراضيها. ومن ناحية ثانية، فتح حلف “الناتو”، مجددا، قضية التوسع شرقا، حيث دعا وزراء خارجية دول “الناتو” -في اجتماعهم في بروكسل في 2 ديسمبر 2015- “الجبل الأسود” إلي أن تصبح العضو الـ 29 في الحلف، في محاولة من القوي الغربية لتوظيف هذه الورقة لإضعاف موقف روسيا، وفتح جبهة دبلوماسية علي الأقل، لتشتيت قواها، وربما لمقايضة ولو ظرفية، قوامها، التهدئة مع تركيا، مقابل العدول المؤقت عن قرار ضم الجبل الأسود إلي “الناتو”، وإن كان انضمامه قادما لا محالة، لأن الحلف ينوي ضم دول البلقان الغربي.
ومن الواضح أن القوي الغربية و”الناتو” في حيرة من أمرهما. فهما، من جهة، ملزمان بحكم ميثاق الحلف الأطلسي بالتضامن مع تركيا، والدفاع عنها، كما أنهما بحاجة إليها في استقبال اللاجئين للحيلولة دون لجوئهم لأوروبا. ولكنهما في حاجة أيضا إلي روسيا في تسوية الأزمة السورية، وفي الحرب علي “داعش”، لاسيما أن القوي الغربية توصلت إلي اقتناع، فحواه أن لا حل في سوريا بدون إشراك روسيا وإيران. وقد تقربت فرنسا كثيرا من روسيا، عقب هجمات باريس في 13 نوفمبر 2015، وأصبحت تعترف بروسيا شريكا في الحرب علي “داعش”، بل وتنادي بائتلاف دولي واحد، مما يعني شرعنة التدخل الروسي في سوريا من منظور غربي. ومن جهة أخري، هناك دول أعضاء في “الناتو” ممتعضة من السياسة التركية حيال الأزمة السورية، ومن توظيفها لها لتصفية حساباتها مع الأكراد، ومن التوجهات التسلطية لحكومة أردوغان.
وهكذا، يبدو موقف “الناتو” معقدا، مثله مثل موقف تركيا وروسيا اللتين أربكهما تصاعد الصراع بينهما.