كوردستريت|| آراء وقضايا
الدكتور عبدالباسط سيدا
موضوع تواجد حزب العمال الكردستاني في مناطق عدة استراتيجية في إقليم كردستان العراق موضوع قديم – متجدد، يعود بجذوره إلى بدايات ثمانينات القرن المنصرم. وهي المرحلة التي نسج فيها الحزب المذكور العلاقات مع النظامين السوري في عهد حافظ الأسد، والإيراني في أوائل مرحلة حكم الخميني.
وقد استطاع الحزب المذكور بنزعته البراغماتية بناء العلاقات مع نظام صدام حسين بعد الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988؛ كما كان قد أقام في الوقت ذاته العلاقات مع الأحزاب الكردستانية العراقية نفسها، وفي الوقت عينه تمكّن من الحصول على موافقة نظام حافظ الأسد ليتحرك بحرية في الساحة الكردية السورية، وكذلك في الساحة الكردستانية الإيرانية بالتفاهم مع السلطات هناك.
وخلال المفاوضات مع الحكومة التركية، كانت هناك توافقات بين الطرفين أحياناً على خروج مقاتلي الحزب المذكور من تركيا والتوجه إلى كردستان العراق عام 2013، أو عودة محدودة لمجموعة من مقاتليه وفق شروط خاصة عام 2015 على أمل إعادة دمجهم ضمن مؤسسات الدولة والمؤسسات الخاصة؛ لا سيما بعد أن قطعت العملية السلمية شوطاً كبيراً في ميدان التوافقات. وكان هناك تفاؤل بالوصول إلى الاتفاق العام، الأمر الذي أُجهض في اللحظة الأخيرة؛ ويُعتقد في هذا المجال أن الضغط الإيراني على الحزب المعني هو الذي دفع به إلى الإقدام على أعمال استفزازية، منها قتل عناصر الشرطة، وحفر الخنادق في مدن عدة من بينها نصيبين وسور (آمد- دياربكر) وشرناخ؛ وقد تناغم هذا التوجه مع عدم وجود رغبة لدة بعض المراكز ضمن الجيش والأجهزة الأمنية التركية التي كانت ترى في حل القضية الكردية في تركيا تهديداً لمواقعها، ومصادرة على أدوارها المستقبلية.
ولكن الذي لوحظ منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي هو أن الحزب المعني قد تحوّل إلى جزء مؤثر في الوضعية السياسية الداخلية للإقليم. وهو اليوم يخلق المشكلات لإدارته، خاصة في المناطق التي يحكمها الحزب الديمقراطي الكردستاني؛ كما أنه يتعاون مع فصائل الحشد الشعبي في العديد من المناطق (لا سيما في سنجار/شنكال) بغية تهديد الحزب الديمقراطي الكردستاني، ويتعاون في الوقت ذاته مع الاتحاد الوطني الكردستاني لغايات براغماتية، وتوافقات مصلحية آنية، تهم الطرفين؛ بينما هو في واقع الأمر ضمن خط نظام «ولي الفقيه» لا يشذ قيد أنملة عن الالتزامات المفروضة عليه إيرانياً، ولا يمتلك القدرة على تجاوز التعليمات والأوامر الإيرانية.
ورغم تصنيف الحزب المشار إليه غربياً، وأمريكياً على وجه التحديد، ضمن قوائم الحركات الإرهابية؛ حتى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد أعلنت عن جائزة نقدية بقيمة 12 مليون دولار تمنحها لمن يمكّنها من الوصول إلى ثلاثة قادة أساسيين من قيادات الحزب المعني، أو الحصول على معلومات ملموسة تؤدي إلى الوصول إليهم؛ إلا أنه في الواقع الفعلي لم تبذل حتى الآن جهود لافتة في سبيل الوصول إليهم. كما لم تساهم الولايات المتحدة في أي جهد للحد من نفوذ الحزب المذكور في إقليم كردستان، بل اعتمدت على واجهاته السورية، ونسّقت، وتنسّق، معها في عمليات محاربة داعش.
أما على الصعيد التركي، فمع أن العمليات العسكرية متواصلة ضد الحزب المذكور منذ أكثر من ثلاثة عقود، والهجمات على قواعد في جبال قنديل ومتينا وكارا ومناطق السليمانية وغيرها من المناطق في إقليم كردستان العراق لم تتوقف، إلا أن القيادة المحورية المعروفة للحزب المذكور ما زالت طليقة بعيدة عن الضغوط الفعلية. وما يستنتج من هذا الأمر هو أن هذا الحزب قد تحوّل في واقع الحال إلى منظمة أشبه ما تكون بالشركة الأمنية، تلبي المطالب المتضاربة لمختلف القوى المحلية والإقليمية وحتى الدولية، وذلك بموجب التوافقات، وبناء على مراعاة الإطار العام للتحالفات الأساسية.
ولعل هذا ما يفسر اعتماد الجانب الأمريكي والتحالف الدولي الغربي على قوات الحزب المذكور تحت يافطة «حزب الاتحاد الديمقراطي»، أو «قسد» في سوريا في محاربة تنظيم داعش الإرهابي؛ هذا مع معرفة الجانب الأمريكي الأكيد بطبيعة وحدود العلاقة العضوية بين الحزب الأم «حزب العمال الكردستاني» في قنديل وواجهاته في سوريا؛ إلى جانب معرفة الأمريكان بتواجد قيادات وكوادر «حزب العمال» في مفاصل الإدارة الذاتية المزعومة التي أعلنها الحزب المذكور من طرف واحد، وهي إدارة غالباً ما كانت بالتنسيق مع سلطة بشار الأسد، وقد بدأ هذا التنسيق في أوائل الثورة السورية، وشمل توزيع الأدوار والمهام، وحتى توزيع حصص النفط والغاز، وواردات المعابر. وبالإضافة إلى تبادل المعلومات الأمنية، وحتى التعاون في ميدان القبض على المنشقين والمعارضين.
ولكن في ضوء التطورات الإقليمية والدولية المستمرة سواء على صعيد ما يحدث في غزة والانعكاسات التي يمكن أن تترتب عليها، والنتائج التي ستتبلور فلسطينياً وعربياً وإقليمياً وحتى دولياً، أم على صعيد تطورات الحرب الروسية على أوكرانيا، واحتمالات التوسع والتصعيد، والحاجة إلى إعادة ترتيب الأوراق وضبط الاصطفافات من جانب الروس أو من جانب الناتو والأمريكان؛ كل هذه التطورات والمتغيرات قد دفعت بالجانب الأمريكي نحو التركيز على ضرورة موافقة كل من تركيا والمجر على انضمام السويد إلى الناتو، وذلك لاعتبارات استراتيجية ملحة لها علاقة بمستلزمات الاستراتيجية الدفاعية الخاصة بالشمال الأوروبي، سواء في منطقة البلطيق أم في دول الشمال التي تشمل كل من الدول الاسكندنافية وفنلندا، وبولندا.
هذه الوقائع والمتغيرات فتحت آفاقاً جديدة أمام العلاقات الأمريكية التركية، ولعل هذا ما تجسّد في زيارة وفد تركي رفيع المستوى برئاسة وزير الخارجية هاكان فيدان إلى واشنطن في أوائل شهر آذار/مارس 2024؛ ومن ثم زيارة وفد تركي كبير، ضم كلا من وزير الخارجية والدفاع ورئيس «جهاز الميت» ومسؤوليين عسكريين وأمنيين، بغداد حيث التقى مع وفد عراقي كبير ضم وزراء الخارجية والدفاع والداخلية، ووزير داخلية إقليم كردستان، والمسؤولين الأمنيين على مستوى العراق والإقليم، وكان الموضوع الأساس هو تحديد الموقف من «حزب العمال الكردستاني» والعمل على إنهاء وجوده في العراق باعتباره غير مرغوب فيه. وكان من الملاحظ أن الجانب الإيراني شارك هو الآخر في الاجتماعات عبر ممثليه غير المعلنين من الحشد الشعبي، الأمر الذي أثار أكثر من تساؤل واستفسار وتكهّن حول ما إذا كانت إيران موافقة حقاً على التخلي عن ورقة حزب العمال الكردستاني؟ وإذا كان الأمر كذلك فمقابل ماذا؟
والجدير بالذكر في هذا المجال هو أن هذه اللقاءات والمباحثات جاءت ضمن إطار الاستعدادات الخاصة بزيارة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان إلى العراق، وهي الزيارة من المفروض أن تكون في شهر نيسان/ابريل المقبل.
وفي السياق ذاته، تدور التساؤلات حول الموقف الأمريكي المقبل من قضية الاعتماد على قوات حزب العمال الكردستاني تحت مسمى «حزب الاتحاد الديمقراطي» الذي تم تغييره لاحقاً ليصبح «قسد»؛ وهو المسمى الذي ينضوي تحت لوائه الكرد من التابعين لحزب «العمال الكردستاني» أو المتعاطفين معه، إلى جانب قوات عربية وسريانية أيضاً، وربما غيرها.
هل ستستمر الولايات المتحدة الأمريكية في اعتمادها على القوات المشار إليها «قسد»، وتتجاهل تبعيتها لحزب العمال الكردستاني، وهو الحزب نفسه الذي أعلنت هي بنفسها عن إرهابيته؟
أم أنها ستحاول الوصول إلى صيغة من صيغ تفكيك العلاقة بين القوات المذكورة، و«حزب الاتحاد الديمقراطي» و«حزب العمال الكردستاني»؟
من جهة أخرى، هناك امكانية لعملية ربما تكون أمريكية تتكامل مع جهود تركية، وحتى كردية ترمي إلى فك الارتباط بين الواجهات السياسية لـ «حزب العمال الكردستاني» في تركيا، وهذا الأخير لتتحول تلك الواجهات إلى أحزاب سياسية حقيقية تمارس نشاطاتها وفق القوانين، ويشار هنا إلى «حزب الشعوب الديمقراطية» الذي يعرف اليوم باسم «حزب المساواة والديمقراطية الشعبية»، هذا إذا شاءت الولايات المتحدة بذل الجهود في هذا الميدان، وتكاملت جهودها مع الجهود التركية وحتى الكردية في كردستان العراق أو حتى من قبل القوى الكردية الأخرى في الداخل التركي، ولكن السؤال هنا هو: هل هناك إرادة ورغبة في تحقيق ذلك من قبل مختلف الأطراف، خاصة من جانب الأمريكان؟
أسئلة كثيرة تطرح حول الاحتمالات المستقبلية، والقاسم المشترك بين جميع هذه الأسئلة يتمحور حول توقيت وجدية المساعي التي ستبذل من أجل وضع حد لتدخلات حزب العمال الكردستاني في الشؤون الكردية الداخلية الخاصة بكرد العراق وكرد سوريا.
والجدير بالذكر هنا هو أنه نهج «حزب العمال الكردستاني» الخاص بالتدخلات في الشؤون الكردية يذكرنا بالتغلغل الإيراني في دول ومجتمعات المنطقة، لا سيما في العراق وسوريا ولبنان، وحتى اليمن.
هل ستكون هناك فرصة يتحوّل بموجبها «حزب الاتحاد الديمقراطي» إلى حزب كردي سوري، بعد أن يتخلى عن أجنداته الإقليمية، ومشاريعه الهلامية التي يستهدف من ورائها الحصول على شكل من أشكال الشرعنة، مهما كانت واهية رغم تبعيته الراهنة لـ «حزب العمال»، ليكون عاملاً من عوامل السياسة الكردية السورية، وحتى على مستوى السياسة السورية، لا سيما المعارضة منها؟
أم أن الحزب المذكور، وبعد كل ما أقدم عليه بناء على تعليمات وأوامر «حزب العمال»، وبالتنسيق مع الإيرانيين، أصبح خارج دائرة إمكانية القبول به من قبل السوريين، خاصة الكرد منهم؟ وأن دوره قد انتهى مثلما انتهى دور القاعدة في أفغانستان بعد انسحاب السوفييت، والانهيارات الداخلية التي تعرضوا لها؟
هل ستكون للتوافقات العراقية التركية الأمريكية، نتائج مؤثرة على الأرض؟ أم أنه يبقى لكل طرف أو فريق حساباته التي قد تتقاطع أو تتعارض بهذه الطريقة أو تلك مع حسابات الأطراف الأخرى، بما فيها سلطة بشار الأسد نفسها؟
*كاتب وأكاديمي سوري
“القدس العربي”