فضت انطلاقة الثورة السورية، بأفكارها السلمية، إلى حالة ثقافية سياسية وفكرية كانت مغيبة إما قسراً او لانشغال عامة الناس بأمورهم الحياتية من دون الخوض في التفاصيل الاخرى. وهذا كان خوفاً من ان ينعكس ذلك عليهم سلباً، بسبب طغيان النظام الشمولي على الوضع العام برمّته. وربما كان من اهم ما سُكت عنه، الحديث في الاسس التي قامت عليها الدولة السورية بعد اتفاقية سايكس- بيكو، ولاحقاً الانتداب الفرنسي. هكذا حُرمت بعض المكونات السورية حقوقها الوطنية (سياسية كانت أو ثقافية أو دينية)، لا بل تم اقصاؤها تالياً من المشهد الوطني العام عبر المزيد من السياسات التي كرست الأحادية القومية والدينية والدولة المركزية، وتسوية جميع القضايا المتعلقة بذلك بطرق لم تأخذ في الاعتبار الانتماءات المختلفة للسوريين قومياً ومذهبياً، وبات هذا السلوك منهجاً رسمياً للسلطة بعد استلام البعث الحكم.
وقد يعتبر البعض أن طرح قضايا هذه في الأوضاع الراهنة ليس في مصلحة إنجاح اهداف الثورة حيث الأولوية لإسقاط النظام الحالي وإقامة البديل الديموقراطي، على أن يُبتّ من ثم بمسائل الاقليات وغيرها مما يستدعي الحلول. لكن اصحاب هذا الرأي يتجاهلون أن غياب الرؤية الواضحة والشفافة لسورية المستقبل وحقوق مكوناتها لدى قوى المعارضة الوطنية التي افتقرت الى قيادة موحدة حتى الآن، هو الذي جعل من شرائح وفئات اجتماعية وقومية تنكفئ ولا تساهم بفاعلية في الانخراط بالثورة.
لقد باتت غالبية القوى السورية مقتنعة بأن الاوضاع وصلت الى مرحلة لم يعد معها ممكناً ايجاد الحلول من الداخل على اهمية ذلك، بل بمساعدة دولية وإقليمية عبر مؤتمر دولي يتم التحضير له راهناً تحت تسمية «جنيف 2»، وأن من عوامل إنجاح هذا المؤتمر اتفاق قوى المعارضة على تصور موحد يأخذ في الاعتبار حقوق مكونات الشعب السوري القومية والمذهبية عبر نظام ديموقراطي وشكل للدولة يلائم ذلك دستورياً ويضمن الحريات الاساسية للأفراد والجماعات، كما يقر بأن سورية دولة متعددة القوميات والأديان.
ومن فضائل الثورة انها أملت على مجمل القوى إعادة النظر في رؤاها السياسية على ضوء الوضع الراهن، وفي مقدمها شكل الدولة، او ما يسمّيه الكثيرون من المثقفين والسياسيين بالجمهورية الثالثة، عبر صوغ دستور جديد يضمن حقوق الجميع وجمعية تأسيسية توافقية لا تستثني أياً من المكونات الوطنية.
فالشعب الكردي في سورية كان اول المستهدفين من الممارسات والاجراءات التي اتخذت أبعاداً شوفينية مقيتة. وكان من نتائج ذلك تصاعد نضالاته السلمية في مواجهة المشاريع التي استهدفت وجوده القومي، مطالباً بالديموقراطية والتعددية والشراكة الحقيقية في البلاد. وكانت الحركة السياسية الكردية تؤكد ذلك في خطابها السياسي وتوثّق علاقاتها مع مختلف القوى التي تؤمن بالديموقراطية واحترام حقوق الانسان، فاعتبرت نفسها جزءاً لا يتجزأ من الحركة الديموقراطية العامة في البلاد، والتي بدورها وضعت الخطط التي فعّلت انشطتها بعد الضربات التي كانت قد تلقتها من الانظمة الشمولية في السنوات السابقة. والآن، وفي ظل ما يطرح من حلول لسورية المستقبل، حسم المجلسان، الوطني الكردي وغربي كردستان، خيارهما وبلورا رؤيتهما التي تقر بأن «الشكل الأرقى للدولة المنشودة هو أن تكون اتحادية فيدرالية متعددة القوميات والأديان بنظام حكم ديموقراطي يقر دستوره بحقوق كل المكونات ويعترف بالوجود القومي للشعب الكردي في سورية وحقوقه القومية في اطار وحدة البلاد». ونعتقد بأن الإقرار بحقوق المكونات السورية هو المعيار الدقيق والواقعي لحقيقة وضرورة الامتثال لإرادة الشعب السوري وثورته العظيمة لبناء دولة الحق والقانون، دولة الكل من دون استئثار وهيمنة او اقصاء. فتحقق ذلك من شأنه ان يجعل من سورية ما يطمح إليه شعبها، أي أن تكون دولة مزدهرة ومستقرة تتبوأ موقعها الطبيعي بين الامم وتضع حداً للمعاناة المزمنة لأبنائها. ومن دون ذلك فالفرصة ستكون متاحة لممارسة استبداد جديد.
* عضو الامانة العامة للمجلس الوطني الكردي