حين أطعمنا العراقيين ..تليد صائب

آراء وقضايا 18 ديسمبر 2017 0
حين أطعمنا العراقيين ..تليد صائب
+ = -

كوردستريت | مقالات |

كان الحد الفاصل بين سوريا و العراق عبارة عن ساتر ترابي يمتد على طول الحدود , قام السوريون بإنشائه لمنع دخول وخروج السيارات و الآليات عبر البر بطرق غير مشروعة أثناء أزمة النظام مع الإخوان المسلمين في بداية الثمانينيات , ويقال أن الآليات التي عملت على انشاء هذا الساتر ( وهي آليات حكومية) كانت تعمل بإشراف مباشر من ضباط المخابرات ,

 

وكانوا يمنعون توقفها أحيانا” حتى لتبديل الزيوت والفلاتر مما أدى لخراب الكثير من محركاتها و اخراجها من الخدمة . كنا نراقب العراقيين من وراء الساتر الترابي الذي يفصل بلدينا , الطريق الذي يربط مخافرهم الحدودية كان معبدا” بالأسفلت على عكس طرقنا الترابية , و صهريج الماء الأبيض اللون كان يزودهم بالماء يوميا” , و سياراتهم كلها حديثة , أما مخافرهم فكانت مبنية من حجارة و اسمنت و مطلية بألوان فاتحة و يرفرف العلم ذي الثلاث نجمات فوقها . معاناتنا مع الماء , أمر لايمكن وصفه , فالصهريج الذي يزودنا بالماء يمر علينا كل عشرة أيام مرة واحدة , قد يسمح لنا السائق بتنظيف الخزان بما تبقى من ماء قبل أن يعيد تعبئته , سياراتنا يكاد صوتها يوقظ الأموات من قبورهم ( إن اشتغلت) و مخافرنا مبنية من الطين والقش , بعضها مطلي بالكلس الأبيض بجهود عساكر المخفر وعلى حسابهم , أما العلم الذي يرفرف فوق المخفر , فهو قطعة قماشية صغيرة جدا” ملفوفة على العمود , مزقها الهواء فلا ترى لها لونا” ولا نسرا” .

 

كنا نحسد العراقيين , بكل ما تحمل كلمة حسد من معنى , و نعتبر أنهم ( مدللين و مرفهين) على عكسنا نحن , كل شيء متوفر لهم حتى الماء الذي نعاني لأجله كان متوفرا” و بغزارة عندهم , حتى لون الصهريج كان أبيضا” نظيفا” بينما لون صهاريجنا كانت خضراء ( جيشية) حتى بعد دخول الجيش العراقي الى الكويت و احتلالها , بقيت أحوال الجيش العراقي على الحدود كما هي , لم يتغير عليهم ولم ينقصهم أي شيء اقترب موعد الحرب , حرب تحرير الكويت التي أعلنها الحلفاء , كان الاستنفار عندنا عاليا” , منعت الاجازات , ومن كان بإجازة تم استدعائه للالتحاق بقطعته عن طريق الشرطة العسكرية صهريج الماء و سيارة الندوة ( التي تبيعنا الخضار و العدس و البرغل) قامت بجولاتها المكوكية عندنا و زودتنا باحتياجاتنا و أنهت مهامها …

 

بسبب الاستنفار بعد اسبوع من بدء القصف الجوي على العراق الذي ضرب جميع خطوط الاتصالات و الامدادات والدعم اللوجستي , فوجئنا بعناصر أحد المخافر الحدودية العراقية يقفون على الساتر الترابي الحدودي و يشيرون لعساكرنا , وحين التقوا, طلب العراقيون من عساكرنا طعاما” لأنهم لم يعتادوا على تخزين مؤون وأطعمة طويلة الأجل ( كالبرغل و الرز ..) وما لديهم من طعام كان قد نفذ … بالتأكيد قرار اعطائهم طعاما” لا يستطيع عناصر المخفر اتخاذه بظل الخلاف السوري العراقي ( الأسدي _ الصدامي) المعروف , وكان على العناصر اخبارنا و أخذ موافقتنا رغم رغبتهم الداخلية الشديدة بتزويد العراقيين بالطعام .

 

نحن أيضا” لا نملك صلاحية اتخاذ قرار كهذا , و قررنا ( الرائد و أنا ) ارسال برقية بهذا الخصوص لقيادة كتيبتنا , وفعلا” قمنا بارسال البرقية للكتيبة وكان وقت الدوام قد انتهى . تم ابلاغ قائد الكتيبة وهو ببيته بمضمون برقيتنا , فطلب رفع البرقية لقيادة الفوج الخامس و الذين رفعوها بدورهم لقيادة قوات حرس الحدود (الهجانة) , ومن هناك وصلت البرقية لادارة العمليات برئاسة الأركان العامة للجيش , كونها المرة الأولى بتاريخنا التي يطلب فيها عناصر الجيش العراقي منا طعاما” .

 

لم نكن نعلم أن هذه البرقية الصغيرة سيكون لها ( طنينا” و رنينا” ) .. فرئاسة الأركان استعلمت من المخابرات عن مضمون البرقية , فاتضح أن المخابرات لا تعلم شيئا” عنها , بدوره رئيس الشعبة اتصل برئيس فرع مخابرات القامشلي يستفسر منه عن عدم ابلاغهم بالأمر , ففوجئ بعدم معرفته ( ويقال أنه بهدله بشدة ) , فاتصل رئيس الفرع غاضبا” برئيس المفرزة الحدودية , ليفاجئ أنه هو الآخر لا يعلم بالأمر .. فصدر الأمر من رئيس الفرع لرئيس المفرزة (حسبما سرب لنا أحد عناصرهم فيما بعد) : اذا كانت المعلومات كاذبة , اعتقل من كتب البرقية و من وقع عليها ( الرائد و أنا) و أرسلهم لي !!

 

واذا كانت صحيحة (يا ويلك وظلام ليلك) رئيس المفرزة المغلوب على أمره جاءنا شبه (باكٍ) لون اصفرار وجهه و احمراره يخالطان بشرته السمراء الداكنة ..

 

يا شباب , بهدلتوني ,, على الأقل بلغوني … شو أقول للمعلّم !!! تأكدت صحة المعلومات … و تأكدنا أن برقيتنا الصغيرة وصلت لرئاسة الأركان و لشعبة الأمن العسكري , و للقيادات كلها … لكننا لم نتلقَّ ردا” عليها .. هل نعطِ العراقيين طعاما” , أم نعتذر ( ونطنشهم ) ؟!!! مر يوم , ثم يوم آخر.. ولا رد … العناصر سألوني عدة مرات عما سيفعلون , فقلت لهم ( ما كو أوامر ) … انتظروا . في اليوم الثالث , قلت للعناصر : شباب , لا أوامر , لكن يمكنكم اعطاء العراقيين بعض الأطعمة وأنا مستعد لشرائها لكم من مالي الخاص , لكن بشرط ألا يعلم أحد بذلك . أوصلنا للعراقيين الطعام خلسة” .. لم أنم تلك الليلة , كنت أفكر : ماذا لو أتى الأمر بعدم الموافقة على اعطاء العراقيين الطعام ؟!! هل سيعتقلوني لمخالفتي الأوامر العسكرية !! في اليوم الرابع .. أعدنا رفع نفس البرقية بتاريخ جديد لقيادة الكتيبة .. سويعات و جاء الرد :

 

القائد سيزوركم ومعه طعام للعراقيين .. تنفست الصعداء . . صرت بأمان الى حد ما .. المهم أن يكمل الله ستره علينا وصل قائد الكتيبة بسيارته ( البيك آب جيمس ) الأحمر .. وكان نصف صندوقها الخلفي مليئا” بالخضار الغالية الثمن آنذاك ( خيار و بندورة و فاصولياء من البيوت البلاستيكية ) ..

 

علمنا أنه اتصل بمدير حقول النفط بالجبسة وطلب منه تزويدنا بالطعام للعراقيين , فتحوا له المخازن , ملأ سيارته اللاند روفر و البيك آب بما استطاع , أرسل السيارة بحمولتها لبيته , ثم عاد و أرسل نصف ما حمله بالبيك آب لبيته مرة أخرى , وجاءنا بنصف الحمل ,كما قال لي سائقه أين المخ

.

تليد صائب

(شارك هذا الموضوع على التواصل الاجتماعي)
آخر التحديثات