الشرق الاوسط/
كل المؤشرات بعد فض اعتصامي «النهضة» و«رابعة العدوية» تشير إلى أن مصر دخلت مرحلة صعبة ومعقدة. ما قبل إنهاء الاعتصامات ليس كما بعده. دماء أكثر من 400 قتيل وما يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمائة جريح، ستزن ثقيلا على أم الدنيا.
يصر الإخوان على أنهم ماضون في الاعتصامات، وتدل أعمالهم على أنهم لن يتوقفوا عن إحراق الكنائس ومهاجمة جنود الجيش ورجال الشرطة، وحتى إضرام النيران في المؤسسات. موجة من العنف والتخريب قد تكون، على الأرجح، أسوأ مما شهدته مصر في عهد مبارك بين عامي 1992 – 1998، حين هاجم الإخوان رجال الأمن والأقباط ولم يسلم منهم السياح الأجانب ولا الكنائس. ورغم القبض على عشرات الآلاف من المنتمين لتنظيم الإخوان، في تلك الفترة، فإن إسكات العمليات التخريبية، استغرق ما يزيد على ست سنوات.
الوضع اليوم أكثر احتداما وتفجرا. المنطقة كلها تحترق. الديكتاتوريات تتهاوى واحدتها بعد الأخرى، وتحل مكانها الفوضى والاقتتال الأخوي المسلح. لا بد أن أوباما يعرف عما يتحدث حين يقول إن «مصر تسلك طريقا خطرا»، وتحذر الدول الغربية من مغبة العنف المتصاعد. دول لم تكن مواقفها، مما يحدث في مصر، عفيفة أو نظيفة، لكنها تقرأ جيدا، وتعي كم الفخاخ المنصوبة للشعب المصري.
الدماء تجر الدماء، والعنف لم يعد من طرف واحد. الهجوم على الجيش المصري في الصحف الغربية التي تضامنت مع حكوماتها، واتهامه بالعنف المفرط، لم يقابله أي استنكار لظهور أفراد من الإخوان بالرشاشات، واستخدامهم للرصاص الحي وقنابل المولوتوف لقتل أكثر من أربعين عسكريا وجرح ما فاق المائتين. ما دار بين قوات الأمن والإخوان في ساحات الاعتصام وحولها من معارك فعلية، أثبت أن زمن السلمية، في الثورة المصرية قد انتهى، والمرحلة المقبلة مسلحة ومن وراء الأقنعة.
أخطأ الإخوان، وهم غالبا ما ينحرهم تعنتهم، ويأخذون شعوبهم بجريرتهم، حينما قرروا أن مصر باتت ملكيتهم بمجرد أن فازوا بصناديق الاقتراع، وأخطأوا مرة ثانية حين لم يسمعوا الاحتجاجات الشعبية المتعاظمة ضدهم، وتركوا الوضع يذهب إلى الانفجار، وأخطأوا مرة ثالثة عندما ظنوا أن الجيش وعلى رأسه وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي سيعجز عن لي ذراعهم وفض اعتصاماتهم، لمجرد أن وفود الدول الغربية تقاطرت لنجدتهم. ولم يفهموا خطورة ما يجرون إليه بلدهم حين رفضوا أي حل لا يعيد المخلوع محمد مرسي إلى سدة الرئاسة، ويعطيهم أكثر مما هو ممكن شعبيا.
سياسة الدماء المسفوكة، التي يحاول الإخوان تسلقها، واستعطاف الجماهير بها، لا تجرهم وحدهم إلى الجحيم، بل تجر من يناوئهم إلى تشدد وتعصب وتطرف مقابل، وهنا بيت الداء.
لم يعد خافيا أن جماعات الإسلام السياسي المتطرف، تمارس اللعبة نفسها بالأدوات عينها من ليبيا مرورا بمصر وسوريا ولبنان وصولا إلى العراق. الثورة المصرية، للأسف، لم تعد الاستثناء المضيء في الربيع العربي، الذي تغنى به أوباما حتى كاد يكتب شعرا.
المشهد المصري بإخوانه المسلحين المقنّعين، الذين يركبون الدراجات النارية، ويقطعون الطرقات بالإطارات المشتعلة أو الحواجز الإسمنتية، ويضرمون النيران في المباني، ويهاجمون من يخالفهم الفكر، ثم يستصرخون العالم لإنهاء مظلوميتهم، له ما يشبهه في دول عربية عدة. مقابل هذا النموذج ينمو رفض مقابل من أكثرية تستنكر احتكار الدين من فئة بعينها. الحملة ضد الإخوان في مصر خرجت عن موضوعيتها وجنحت. استخدام بعض التلفزيونات لألفاظ مثل «مجرمين» و«جزارين» و«سفاحين» لوصف فئة من المصريين، يجعل أي مصالحة وطنية شاملة ضربا من المستحيل على المدى المنظور.
قيادات الإخوان في السجون، هجوم أنصارهم المسلح على رموز الدولة ومؤسساتها لا يبدو أنه سيتوقف، الحملة ضدهم تتصاعد، الهوة بين المصريين باتت سحيقة، وحالة الطوارئ من المستبعد أن ترفع خلال شهر. الأوضاع كما هي اليوم، لا تنبئ بأن ما وعد به الفريق عبد الفتاح السيسي من خارطة طريق تعيد الديمقراطية إلى مصر، بمشاركة كل المصريين، في القريب العاجل، هو مما يمكن تنفيذه.
لا يمكن فصل ما يحدث في مصر عما يدور في كل المنطقة. الجيوش العربية وقوى الأمن، باتت أهدافا لمتشددين إسلاميين في أكثر من بلد عربي. كنا نظن أن حل الجيش الوطني بعد دخول الأميركيين إلى العراق، على يد بول بريمر، كان مجرد خطأ استراتيجي ارتكبه الاحتلال. اليوم يتبين أن التخلص من الجيوش أو على الأقل إنهاكها وتفتيتها هو من متطلبات المرحلة. ليس مهماً إن كان ضرب الجيوش العربية يأتي على يد تكفيريين أو جماعة الإخوان المسلمين، وربما مباشرة من قبل الاحتلال. وقد يقوم بالمهمة ديكتاتور طاغية كما هو الحال في سوريا.. فالأطراف العربية المستعدة للتبرع بالخراب، عن حسن أو سوء نية، صارت بين العرب أكثر من أن تحصى. وبينما يتساقط القتلى في بيروت ودمشق والقاهرة وطرابلس وبغداد، يوميا وبالمئات، وتتلقى الجيوش العربية الوطنية ضربات موجعة، تتراقص تل أبيب نشوة ويرتاح قلبها أمنا وطمأنينة لمائة سنة مقبلة.