لماذا خسرنا كركوك ونفطها، ولماذا لم نستطع الاحتفاظ على المكتسبات الحاصلة عليها خلال السنوات الماضية، وهل سنخسر الفيدرالية الفعلية، وهل ستتراجع صلاحياتها إلى مستوى المحافظات، ولماذا أصبحت الكونفدرالية حلماً بعد إن كانت مرحلة الاستقلال على الأبواب؟ وهل ستكون مصير جنوب غربي كردستان مشابه لمصير جنوبها؟ وهل حقا تخلت أمريكا وروسيا عن الكرد وكرروا التاريخ ذاته، وهل سيستمرون بالتغاضي عنا وعن وقضيتنا، ولماذا مصالحهم لا تتجه إلى حيث كردستان كوطن للكرد، وهل سيأتي اليوم الذي ستدرج فيه القضية الكردستانية ضمن الأروقة الدبلوماسية الدولية، وسيعالجونها على منصات المنظمات العالمية؟
.
وهل الخيانة متجذرة في معظم السياسيين الكرد، وتحت غطاء الأفضل للمصلحة الكردية، أم أنها ثقافة فرضت عليهم، ولماذا لا نزال نجهل أبسط مؤامرات الأعداء، وتلاعبه بعقولنا، ولماذا النقد الذاتي من باب التشفي يهيمن على أدمغة شريحة واسعة من حركتنا الثقافية والسياسية، ولماذا يفضلون الأخر على الذات، ولماذا لا يزال الإحساس بالدونية والشعور بالنقص متأصلا ولا يمكن استئصاله، ولماذا الاختلاف السياسي أو في الرأي يؤدي بشريحة واسعة منا الالتجاء إلى تفضيل العدو على الأخ؟
.
هذه الأسئلة وغيرها تدور اليوم في كل زاوية من زوايا كردستان، بل وضمن العديد من الأروقة السياسية والثقافية للدول الإقليمية، ولربما العالمية. وستتوالى الحوارات والنقاشات، والسجالات بين الكرد ضمن كل بيت كردستاني، ولن تخمد، وستتصاعد الاتهامات بيننا إلى أن أصبح التلاسن نعمة، والتخوين من مجريات التحليل والتبرير لانتكاساتنا. ونادرا ما سنتذكر القوى الحقيقية المسؤولة، والفاعلة، وعليه سنستمر في معالجة مصائبنا بنفس النهج الكلاسيكي الريفي القديم، وبنفس الأساليب والطرق البسيطة والساذجة، وسنظل نتحاور على مستوى الأحزاب المسيرة من قبل المربعات الأمنية للقوى الإقليمية. ولا شك ونحن بهذه الذهنية لن نخرج بنتيجة، واستمرارنا على هذه الإشكالية لا نستبعد أن تتكرر المصيبة لمرات قادمة، فكلما ارتفعنا درجة من الوعي، أعدائنا يسبقوننا بدرجات، وبالتالي سنظل محتلين، وأدوات سهلة الاستعمال بيد الأخرين، ولن نتمكن من مواجهة خباثتهم وطرق معاملتهم لقضيتنا وتحجيمها، وبالتالي علينا السلام.
.
أقولها ليس من باب هدم الثقة، ولا عن سوداوية أمام مجريات الأحداث، بل بعد التمعن في الحركة الكردستانية، وكيفية معالجتهم للكارثة، وكيف كانوا يتعاملون مع المكتسبات التي قدمتها لنا القوى الكبرى، كهدية على ما قدمته لهم القوات الكردية العسكرية من التضحيات.
.
لا حصر للأسباب المؤدية إلى تقسيم واحتلال كردستان، عرضت جميعها، ومن رؤى مختلفة وبكل أوجهها، حللت ونوقشت في معظم الأوساط، وتمت تأويلها على مدى العقود الماضية، لكن الاستنتاجات كانت أضحل من أن تضعنا ككرد على سوية شعب أدرك أخطائه، وقادر على تجاوز تكرارها، ويستطيع مواجهة سلبياته والتي لا تقل تأثيراً عن معاملة السلطات المحتلة لكردستان، كما ولم ترفع من مدارك قادة الحركة الكردستانية، ولم تنورهم، أو تنبههم إلى عدم تكرار الأخطاء ذاتها.
.
كما وأن الحركة الثقافية والسياسية، الأكثر تداولا لها، لم تكن على سوية أخذ العبر منها، لأن شرحها، وتأويلها لم تخرج عن إطار عناوين ساذجة، وأهمها خيانة الكردي الآخر، وكأن الشعوب الأخرى التي بنت الأوطان وسيرت كيانات سياسية كانت خالية من الخونة والخيانات.
.
فتحت السطور البراقة، تم تكرار نشر نفس المفاهيم البسيطة بين المجتمع الكردي، وساعدت على استمرارية التفكير بنفس السذاجة الملائمة للأعداء، ويعمل على ديمومتها بيننا، ونشر من أجلها مفاهيم على أثرها ظلت الأجيال تورث السلبيات، ومنها الخلافات الداخلية، إلى منطق التخوين، واستمروا على ترويجها بين الشعب الكردي بأبسط الطرق، إلى أن بلغت وكأنها صفات تلازمنا، أو أنها جينة متوارثة، وتكرارنا لهذه المفاهيم بالضبط هو ما يريده الأعداء، ويحافظون عليه بكل الأساليب، وللأسف استندت عليها الحركة الكردستانية على مدى العقود الماضية، للتغطية على ضعف قدراتهم وضحالتهم السياسية والدبلوماسية الدولية.
.
ليس مهما حصر أسباب عدم قدرتنا على توحيد وتحرير كردستان، ولا الوقوف على جميع العلل التي تلازمنا كحركات كردستانية، بل المهم وفي هذه المرحلة المصيرية، الوقوف على أكبر خطرين لا زمتنا طوال المراحل السابقة، ولا تزال طاغيتين، وهما على الأغلب من أهم العوامل التي ترسم مستقبلنا كشعب يحاول إقامة كيانه الجيوسياسي. ولا شك، الاستمرار على النهج المتبع هذا، دون الإحاطة بالخطرين ومن كل جوانبهما، ستتتالى خسائرنا لمكتسباتنا، وسنظل شعب بلا وطن.
.
يحصر معظم المؤرخون الأسباب في نطاقين، مصالح الدول الكبرى، والتي لم تعرف الحركة الكردستانية حتى اللحظة إدراج مصالح كردستان مع مصالحهم، وظلت في معظم المراحل الزمنية متضاربة مع قيام دولة كردستان موحدة، ولا تزال متضاربة، وعملية الاستفتاء خير مثال، ولم ندرك أن الدول الكبرى هي التي خدمتنا ولسنا نحن من خدمناهم. فلولاهم لكانت اليوم هولير وقامشلو خرابا يبابا مثل كوباني، ولعاثت داعش في مدننا وقرانا. ولسذاجتنا واستمرارية تقييمنا لذاتنا على المنطق العشائري، نحكم على القوى الكبرى بالخيانة لنا، في الوقت الذي لم نجهز بنية أو سلعة تجذبهم إلينا، فعلى مدى العقود الثلاث الماضية ظللنا فارغي اليد، لا نملك شيئا نقدمها لهم، أو لتقريب مصالحهم لثرواتنا. ولا ندرك بأنه علينا إطاعة أوامرهم بكل حذافيرها، ولا نرى بأن مصير المنطقة بيدهم وهم أربابها.
.
وهنا تكمن إحدى أهم معضلاتنا كحركة كردستانية، ثقافية وسياسية، والتي تعكسها وبشكل فاضح ضعف إمكانياتنا، من قلة الحنكة، إلى الخلفية الثقافية، والمؤثرة على الخبرة في السياسة الدولية وتأويلاتها، ويترافق مع كل هذا منطق سيادة الانتماء الحزبي على الوطني، والمؤدية إلى إهمال الجبهة الداخلية وتشتتها. هذه العوامل إلى جانب أخرى خلقت شريحة فضلت مصالحها الشخصية على الحزبية، والحزبية على الوطنية، وبالتالي ظهر النهج أو النموذج القيادي المتعارض ومصالح الدول الكبرى، ولذلك ورغم كل التضحيات بقينا أدوات بيد المحتلين.
.
فلنأتي على منطق الخيانة، دون أن نلوج في ثناياها، ونحللها، فالمصطلح عند الشعوب المغلوبة على أمرها، والتي لا تزال تتحكم بتصعيدها أو تخفيضها القوى المحتلة ومربعاتها الأمنية، تصبح بحد ذاتها حمالة الأوجه، وقد تعرض لها العديد من الكتاب والمفكرين والسياسيين العالميين، وكتب عنها صفحات وصفحات، وروجت أمثلة عديدة عنها. لكننا هنا سنتطرق إلى أحد الأوجه التي تثيرها الجهة المغلوبة على أمرها ضد الأخر، وتضخمها قدر المستطاع، لتبرير خسارته، وللتغطية على سلبياته المؤدية إلى الانتكاسة.
.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
[email protected]
1/11/2017م