كوردستريت – قصة منشورة في “الاندبندنت” البريطانية وسواها من الصحف الغربية اليوم، وفي “الواشنطن بوست” الأميركية أمس
قصة نارين……
قصتها حملها إلى العالم الصحافي الكردي محمد صالح المقيم في أربيل. اختار لها اسم “نارين” المستعار لحمايتها وأسرتها، فصحيح أنها صارت آمنة في كردستان العراق، لكن مصير الكثير من معارفها لا يزال مجهولاً. ويوضح صالح أن دوره اقتصر على الترجمة من الكردية والتعاون مع إدارة تحرير “الواشنطن بوست” لصياغة موضوع مؤثر كُتب بلسان الراوية، لنجد أنفسنا أمام قصة شجاعة وإيمان ورباطة جأش، وأمام إنسانية أشخاص حرصت نارين على الإيضاح أنهم “سُنة” أو “مسلمون” عرضوا حياتهم للخطر لإيصالها إلى بر الأمان.
في صباح الثالث من آب، بلغ مسلحو “الدولة الإسلامية” أطراف بلدة تل عزير في محافظة نينوى العراقية، فغادرت نارين وأفراد أسرتها، لم يأخذوا إلا ملابسهم وبعض المقتنيات. وبعد ساعة من المسير شمالاً، توقفوا للارتواء من بئر. كانوا يتجهون إلى جبال سنجار، حيث “آلاف الايزيدين مثلنا، لأننا سمعنا الكثير من القصص عن وحشية (مقاتلي) “الدولة الإسلامية” وما قاموا به بغير المسلمين… فجأة وجدنا أنفسنا محاصرين بمسلحين يرتدون بزات “الدولة الإسلامية”. صرخ الناس في رعب وخفنا على أرواحنا. لم يسبق لي الإحساس بعجز مماثل”.
وبعد ذلك قُسم الأسرى بحسب الجنس والعمر، وسرق المسلحون أموال الطاعنين في السن وتركوهم، بعد تجريدهم من كل شيء. وُضعت النساء والفتيات في شاحنة، وسُرعان ما قُتل الشباب، وبينهم شقيق نارين وعمره 19 سنة.
وبعد الظهر وصلت الأسيرات إلى مدرسة مهجورة في قرية غرب الموصل، هناك وجدن نساء وفتيات فَقَدن حريتهن قبلهن. دخل مقاتلون، وبعضهم من سن نارين، وعرضوا على المحتجزات اعتناق الإسلام، لكنهن رفضن. وبعد أيام نُقلن إلى مكان أوسع في الموصل فيه المزيد من الايزيديات، واحتُجزن هناك 20 يوماً. وطوال تلك الفترة، استمرت الضغوط عليهن للتحول إلى الإسلام، وكان الرد نفسه، “لن نتخلى عن ديانتنا”.
وفي مرحلة لاحقة فُصلت الفتيات عن المتزوجات، و”قُدَمت وصديقتي شايما هدية إلى مقاتلين في “الدولة الإسلامية” من الجنوب. شايما مُنحت لأبي حسين، وهو رجل دين، وأنا اختاروني لرجل يتجاوز الخمسين من العمر، وزنه زائد ولحيته كثة، ويبدو أنه صاحب منصب مهم وكنيته أبو أحمد. اقتادونا إلى منزل في الفلوجة كأنه قصر. كرر أبو أحمد دعوتي إلى الإسلام. حاول اغتصابي مرات عدة، لكنني لم أمكنه من لمسي. فصار يضربني يومياً، يعاقبني ويركلني. واقتصر طعامي على وجبة واحدة. فكرتُ وشايما في الانتحار”.
وعلى رغم قسوة المعاملة، مُنحت الفتاتان هاتفين للاطمئنان على أفراد أسرتيهما. هناك في سنجار، علِق الأقارب في حصار “الدولة الإسلامية”. وبعد خمسة أيام نجح مقاتلو البشمركة الأكراد في تهريبهم إلى سوريا، ومنها إلى شمال العراق. قيل للفتاتين إنهما ستنجوان لو استسلم ذووهما وقدِموا إلى الموصل واعتنقوا الإسلام. طبعاً لم يصدق أحد تلك الوعود، فبقيت الصديقتان في الفلوجة.
مغامرة الفرار
مرة غادر أبو أحمد المكان في مهمة ميدانية، وكلف أبا حسين مراقبة الفتاتين. لكنه تركهما وخرج للصلاة، فاتصلت شايما بمحمود، وهو شاب سني وصديق لقريبها ويقيم في الفلوجة. كان مستعداً للمساعدة، لكن كان عليهما قبلاً إيجاد وسيلة للخروج من المنزل، فاستخدمتا سكاكين المطبخ لكسر أقفال الأبواب.
وبعد ربع ساعة بلغتا وسط المدينة. بدتا امرأتين مثل سائر النساء إذ لم يكن ممكناً معرفة هويتيهما تحت ستار عباءتيهما. هناك لاقاهما محمود واقتادهما إلى منزله. وصباحاً استأجر لهما سيارة أجرة لتقلها في رحلة ساعتين إلى بغداد. كان السائق خائفاً لكنه شعر بواجب مساعدة الفتاتين اللتين ارتديتا النقاب للتخفي، وزودهما محمود ببطاقات طلابية مزوّرة في حال المرور بحواجز تفتيش. رافقهما الشاب في تلك الرحلة، واضطر عند أحد الحواجز لرشوة مسلحين ليكملوا المسير.
أخيراً، بلغتا بغداد، صارتا في عهدة أصدقاء إيزيدين وأكراد مسلمين. مرة جديدة استخدمتا هويات مزوّرة للسفر جواً إلى أربيل. هناك أمضيتا ليلة في منزل النائبة فيان دخيل، وانتقلتا شمالاً نحو شيخان، مسقط بابا شيخ، الزعيم الروحي للايزيديين.
دامت معاناة نارين شهراً، وانتهت مبللة بدموع أبيها وأمها وفي أحضانهما. دموع الفرح على استعادة الابنة، والحزن على شقيقها المقتول، والقلق على زوجته المحتجزة في الموصل.
بعمر الرابعة عشرة، اختبرت نارين قسوة البشر. تحاصرها الكوابيس ليلاً ونهاراً. وتختم روايتها بالقول :”أريد مغادرة هذه البلاد، كلها، لا مكان لي فيها بعد الآن. أريد الذهاب إلى مكان يمكنني أن أبدأ فيه من جديد”.