” دونالد ترامب ” … هل يبحث عن الثروة … أم الثورة؟

آراء وقضايا 12 نوفمبر 2016 0
” دونالد ترامب ” … هل يبحث عن الثروة … أم الثورة؟
+ = -

* عنايت ديكو

.
كثرت التفسيرات والاستنتاجات والتحليلات والقراءات السياسية والإعلامية والاجتماعية والفكرية والنفسية حول صعود نجم “دونالد ترامب” وتسلمه سدة الرئاسة الأمريكية كظاهرة وكنتيجة. وتناولت هذه الجهود أيضاً معرفة الديناميات الكامنة التي أدت إلى هذا الظهور الباباراتسي الشهير والعظيم والمفاجئ ، فهل ظهور “الترامبية” اليوم أتى كطفرة سياسية وعرضية مفاجئة ..؟.. أم أنها جاءت نتيجة طبيعية للتطور الرأسمالي الغربي الكبير والفاحش والهائل وعلى كل الصعد؟

.
وبتعريف آخر …: هل ظهور “دونالد ترامب” جاء نتيجة للتراكمات الاقتصادية والتقنية والمعرفية والاجتماعية والسياسية المتمثلة بالفكر الغربي الجديد؟ أم أنه يمثل حراكا يحمل في طياته بذور انشطارات وتشظيات في البنية التركيبية للاقتصاد والسياسة والفكر في عالم الرأسمالية؟
وهل تتجه الرأسمالية الغربية إلى طرد العوالق والمهترئات من بنيانها وتنظيف جسمها من السموم وتخليص جسدها من الغبار التاريخي والتعريف بنفسها من جديد والتأقلم مع المحيط والتحديات، مع ضمان حياة واستمرارية جديدة لها والانطلاق بأدوات مغايرة وجديدة للصراع العالمي والتوجه نحو المستقبل… أم أنها باتت عاجزة في سيطرتها على العالم وإقتصادياته المختلفة والمتناثرة والمتناقضة؟

.
هل نستطيع القول : إن “دونالد ترامب” هو الرئيس الوحيد في العالم الذي لم يبحث عن الثروة بل يبحث عن القوة؟ وأعلن أنه في حال تسلمه الرئاسة ؟ فلن يأخذ راتبا لوظيفته ، لأنه غير محتاج له .!

.
يختلف “دونالد ترامب” كل الاختلاف عن الساسة الغربيين وعوالمهم؟ أولئك الذين أخذوا أوروبا من الحروب والاقتتال إلى دول سلمية راقية وحضارية، أولئك الذين كانوا يصعدون خشبة المسرح السياسي في أوروبا بقطع الأنفاس وبجهد جهيد وبعد تأهيل اجتماعي وسياسي وحزبي كبير، أولئك الذين إذا خرجوا على المسرح كانوا منمقين ومطلعين ومدركين لتفاصيل ودقائق الأمور في العالم كله، سواء في التاريخ الفائت أو في التاريخ الحديث والمعاصر؟ منهم على سبيل المثال : “ونستون تشرتشل … هنري كيسنجر … مارغريت تاتشر … جون ميجر … فيللي براندت … فرانسوا ميتران … هيلموت كول … وغيرهم من عمالقة الساسة الغربيين؟ فكنا نراهم ونقرأ ونسمع عنهم بأنهم كانوا يتمتعون بلياقة وحنكة وكياسة ودبلوماسية عميقة وكبيرة، واحترام لا حدود له وعلى كل الصعد والمستويات، فكان السياسي الاوروبي والغربي بشكل عام يفلتر ويتدرب على شتى أساليب التعاطي والتفاعل والتعامل الأ تيكيتي الإيجابي مع الجماهير والتقرب إليهم، وكان يقوم هذا السياسي أيضا بتلقي أساليب الحنكة والادارة والدبلوماسية وصقل الميزات والمواهب الشخصية والفردية وذلك من أعرق المدارس الفكرية والسياسية والحزبية الأوروبية. وفي الأخير كان يدفع بهذا السياسي المخضرم الى الظهور العلني الأنيق والمدروس، ليبقى حاضراً دائما في الاذهان والقلوب وليستطيع هذا الشخص من التأثير الكبير والكامل والشامل على الناخب والأصوات وكسب النتائج الانتخابية، بالإضافة الى البرنامج السياسي لهذا الحزب أو تلك الشخصية السياسية المرشحة. وإلى جانب هذا وذاك، كان الظهور الجميل واللياقة البدنية والأناقة بأبهى صورها وحللها، والابتسامة العريضة واستخدام النبرة السياسية المتزنة والرصينة والمرنة، لها حضورها القوي والثابت أيضا والتي كانت لها الدور الحاسم والمفصلي للحصول على صوت الناخب والتصويت لهذا السياسي أو لهذا الحزب.

.
لكن ما حدث في أمريكا تحديدا وقبله ظاهرة ال” برلسكوني” في إيطاليا وتجربة ساركوزي في فرنسا؟ كسر كل الحواجز والقوالب وقواعد اللعبة والأعراف والأخلاقيات والممارسات التي كانت مفروضة على السياسي الغربي ممارستها قبل مجيئه وتبوئه سدة الحكم . ولذلك تحاول اليوم كبريات الصحف والمؤسسات الإعلامية الغربية الى جانب معاهد الدراسات والتحليلات السياسية والاجتماعية والثقافية والنفسية من دراسة هذه الظاهرة الترامبية ومن كافة جوانبها والوقوف على الديناميات الدافعة والكامنة التي أدت إلى بروز هذه الظاهرة والتي ستصبح في القريب القادم مادة غنية لعلماء الاجتماع والنفس والفكر والسياسة. فأكثر القراءات والتحليلات والدراسات حول صعود ” ترامب” كلها انصبت على مدى تأثير المال السياسي والاعمال التجارية الضخمة والهائلة على سلوك الناخب الأمريكي والذي اقتنع في الأخير بأن صوته يجب أن يذهب الى ” ترامب” وليس إلى “هيلاري كلينتون”، متناسية، أنها ليست الطفرة الاقتصادية وحدها كانت وراء الانتصار الكاسح الذي حققه الجمهوريون في الولايات المتحدة الامريكية. بل هناك ديناميات اجتماعية وثقافية ونفسية كانت لها الحضور الأبرز في قلب موازين القوى الفاعلة ضمن تركيبة المجتمع الأمريكي، فالشباب الأمريكي بالمفهوم السياسي وليس العمري بات يتطلع الى حراكات وتغييرات جذرية وجوهرية نتيجة هذا الكم الهائل من التطور العلمي والتقني والروبوتي والخلاص من معمعة هذا الركود الاجتماعي والأخلاقي المقولب والروتيني، فلأول مرة رأينا المجتمع الأمريكي لم يتأثر بالإعلام والمولتي ميديا والذي اعتمدتها اللوبيات الديمقراطية بشكل كثيف في انتزاع أصوات الناخبين والفوز بالانتخابات، وكان ذاك علنا. وإن أكثر وأشهر قنوات التلفزة الأمريكية كانت متعاطفة مع الحزب الديمقراطي ومرشحته “هيلاري كلنتون “، ولكن ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية كان بمثابة زلزال ضد البيروقراطية السياسية الكلاسيكية والحزبية البطرياركية في الولايات المتحدة الأمريكية، فأكثر من 70% من مراكز الأبحاث والاستشارات ومعاهد التحليلات السياسية والعسكرية في العالم الغربي تنبأت بفوز السيدة “هيلاري كلينتون”. بينما النتيجة كانت عكس هذه التنبؤات والتحليلات والدراسات والاستقراءات. مثلما حدثت في “إنكلترا” أيضا وخروجها المدوي من الاتحاد، فكل الدراسات والقراءات آنذاك وإلى ليلة التصويت. أكدت وأجمعت على عدم خروج الإنكليز من البيت الاوروبي، ولكن كل تلك الدراسات ذهبت أدراج الرياح أمام طموح الشعوب وحرياتهم وتطلعاتهم ورفضهم للضغوطات وروتين الحياة الجامدة. فالمجتمع الغربي وعلى وجه الخصوص المجتمع الأمريكي ونتيجة هذا الكم الهائل من التصنيع والضرائب والتبعات الاقتصادية على الشارع والاكتشافات العملاقة ومحاكاة الفضاء والتطور التقني الهائل ودخول العالم الى الفضاءات الرقمية و الديجيتالية اللامحدودة والتحكم بمصائر الملايين والملايين من البشر عبر كبسة ذر فيسبوكي أو غيره فقط. وأمام هذا التقولب الانساني والعضوي على الذات والوحدانية القاتلة التي ترافق الانسان الغربي، خاصة عندما يرى الانسان بأنه قد تحول الى مادة رقمية جامدة في هذا الكون الديجيتالي الفظيع الحارق لأنسنة الانسان، ويرى أيضا بأنه أصبح أسيرا للحياة الرقمية الاقتصادية ودخوله دوامة الأتمتة القاتلة…. فهنا يبحث هذا الانسان عن نفسه وعن وجوده عبر الثغرات والفجوات في المجتمع ويتبنى الرفض بكل أشكاله وأنماطه الموجودة حوله! أي إنه يمارس شكلا من أشكال الحركية الثورية سواء بوعي موجود وملموس أو بأشكال وأنواع لا مباشرة. من هنا يبدأ هذا الانسان الغربي بالبحث عن متنفس آخر وعن عوالم وطرق أخرى في التعبير عن الوجود والحدود لإنسانيته، فالشارع الانكليزي الذي سبق العالم بالتعبير عن مبدأ ” الرفض ” ورفض الواقع وتجلياته والبحث عن الأنا الإنكليزية، واليوم جاء الشارع الامريكي عبر تبنيه لهذا الطرح والبحث عن الأنا الأمريكية وعن فضاءات وعوالم جديدة ومغايرة وأكثر حيوية وحرية واستقلالية، عالم مختلف عن ذاك العالم الذي كنا نعرفه في كتب التحليل السياسي والفكري والاقتصادي، عالم فيه حرية الشعوب الغربية وحرية الرأي والحريات الشخصية والفردانية فوق أي اعتبار آخر، ولذا نرى متتاليات سياسية من المخاضات البشرية والتي نشاهدها اليوم عبر التقلبات والمسيرات والتظاهرات في الشوارع الغربية بشكل عام . فهل ما حصل البارحة في انكلترا واليوم في الولايات المتحدة الامريكية هي بدايات لثورات فكرية واجتماعية وإنسانية واقتصادية وسياسية، يكون محركها الاساسي الحرية الفردية ضد القوننة الديجيتالية وعصرنتها وأنسنتها أكثر؟ أم أن كل هذه الحراكات و المخاضات ما سوى إلا ارهاصات وضغوطات جانبية طبيعية مرافقة للتطور الرأسمالي الهائل والضخم والكبير اللامحدود؟ وأخيراً نستطيع القول بأن هذا التطور الهائل للصناعات الرقمية والحسابات والرموز والشيفرات بات يقف عائقا أمام الأنا الانسانية الطامحة للسيطرة والامتلاك، ويقف ايضا سدا منيعا أمام طموح الشعوب في التغيير والتقدم والسير نحو فضاءات أوسع و أرحب وأجمل . لأن الطبيعة البشرية وبكل تشعباتها لا تحب الركون في الصمت والسكون في القوالب والعلب المغلقة والمحكمة والعيش مع حياة خالية من الصراعات والتناقضات والتفاعلات وعلى رأسها إنسانية الانسان، وإن كانت تلك الحياة هي ” جنان الخلد ” الخالية من الصراعات والتباينات والتمايزات. فالعالم بحاجة الى التغيير ان لم نقل الى تبديل.!

.
* عنايت ديكو

آخر التحديثات
  • أتبعني على تويتر

  • تابعونا على الفيسبوك