إعادة إنتاج أزمات الرأسمالية الإقتصادية

آراء وقضايا 30 ديسمبر 2014 0
+ = -


د .خوشناف سليمان*


عدة سنوات فقط تفصلنا عن سبتمبر 2008 عندما بدأت الأزمة المالية العالمية والتي اعتبرت الأسوأ من نوعها منذ زمن الكساد الكبير. وقد ابتدأت أولاً بالولايات المتحدة الأمريكية ثم امتدت لتشمل معظم دول العالم. وهي لم تكن وليدة اللحظة، وإنما كانت لها جذور تاريخية ارتبطت ببعض الأحداث والاختلالات الاقتصادية، التي مهدت الطريق لوقوع الأزمة. وقد انفجرت بسبب فقاعة العقارات الأمريكية، التي أدت الى إفلاس وإنهيار الكثير من البنوك والمؤسسات المالية.


تنشأ الأزمة الاقتصادية نتيجة اضطراب فجائي ناشيء عن اختلال التوازن الاقتصادي بين الإنتاج والاستهلاك. ويستعمل علماء الاقتصاد مصطلح الدورة بدلا من كلمة أزمة. فالأزمة تدل على الاختلال أو الاضطراب في حين أن الدورة تدل على الانتظام في التعاقب الذي تخضع له الظواهر الطبيعية. ويحمل الكثير من الاقتصاديين، النظام الرأسمالي مسؤولية الأزمات الاقتصادية، وذلك بسبب الفوضى في الإنتاج واللامساواة في توزيع الثروات. لا تقتصر الأزمة على قيم الأسهم بل تشمل الاقتصاد الحقيقي وهي تأكيد على روح الرأسمالية العنيفة التي تسحق الآخرين تحت مبررات المصالح وتحقيقها.


الخوف من حدوث أزمة مالية جديدة شبح يطارد الجميع، حيث هناك علائم قوية تنذر بوقوعها في الأمد القريب. إذ بدأ يبرز في الأسواق العالمية الرئيسية خليط من إضطرابات جديدة وحالة خطيرة من عدم الاستقرار ترافقها انهيارات في أسعار الأسهم. وتتجلى معالمها في الانخفاض الدراماتي لأسعار النفط وإنهيار الروبل الروسي و إرتفاع قيمة الدولار الامريكي و الوضع السياسي الغامض في اليونان. إنه مزيج خطير لأزمات متفاوتة تتربص بأسواق المال العالمية، تتوقف درجة تفاقمها على مدى وكيفية تنامي وتفاعل العوامل الأربعة المذكورة اعلاه.


صدمة انخفاض أسعار النفط


سجل سعر النفط الخام سلسلة تراجعات مستمرة خلال 6 أشهر الاخيرة، انخفض فيها بنسبة 46٪ تقريبا، حيث هبط سعر برميل من خام برنت (159 ليتر) من 111,78 دولار بداية شهر يوليو ليبلغ 60,6 دولار في آواخر ديسمبر من العام الجاري. و يشبه التراجع الحالي الى حد بعيد مما حصل مؤخرا له في الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008. واذا ما استمرت الأمور بهذه الوتيرة، فإن الأسواق الأخرى مهددة بسلسلة من التفاعلات: عجز شركات النفط على خدمة ديونها، قيام المستثمرين بسحب أموالهم من أصول أخرى لتسديد خسائرهم في أعمال النفط. كل ذلك يحمل في طياته عواقب وخيمة على الاقتصاد العالمي. إن انخفاض أسعار النفط إلى مستويات أدنى، من شأنه أن يخلق ايضا مشاكل حادة ذات عواقب جيوبوليتية مأساوية في البلدان المنتجة للنفط.


في طبيعة الحال تستفيد الدول المستوردة للنفط، على سبيل المثال الولايات المتحدة و ألمانيا من الوضع الناشئ حيث يتم شراء المادة الخام بأرخص الأسعار. مما يعني ضمناً ارتفاع الدخول الحقيقية للمستهلكين، الذي يؤدي الى ارتفاع مستويات الطلب الكلي وتشجيع الشركات على زيادة الإنتاج، مما ينعكس بشكل ايجابي على أداء الاقتصاد الكلي. في المقابل، ان أكبر المتضررين من تراجع أسعار النفط ستكون الدول المصدرة للنفط، و بالأخص تلك التي تعتمد بشكل قوي على الموارد الطبيعية ومن ضمنها فنزويلا وإيران وروسيا، حيث تعتمد هذه البلدان بشكل كبير على عائداتها من النفط لدعم الإنفاق الحكومي و برامجها المالية الضخمة.

والجدير بالذكر هنا فأن حكومات الدول المصدرة للنفط ستواجه صعوبات جمة في تمويل برامجها التنموية حتى عندما تكون مستوى سعر البرميل الواحد 75 أو 80 دولاراً. ويختلف الوضع قليلا لدى الدول الاخرى المصدرة للنفط، مثل السعودية و العديد من بلدان الخليج. ويُكمن الإختلاف أولا، في قلة تكاليف استخراج النفط فيها، والذي يعني قدرتها على الإنتاج مع هامش ربح معقول بالأسعار الحالية أو حتى عند مستويات متدنية للأسعار، وثانيا، احتياطياتها المالية الهائلة تسمح لها بتمويل أنشطتها الداخلية والدولية لفترة طويلة وبتقليل اعتماد اقتصاداتها على عائدات النفط.
في هذا السياق، يمكن الإشارة الى أن انخفاض أسعار النفط قد أدى الى تراجع و تقليص إيرادات تنظيم داعش بشكل ملحوظ من مبيعات النفط، و انعكاس ذلك على تفاقم مشكلة التمويل لديه و صعوبة تسديد رواتب عامليه. ولعل هذا ما جعل البعض يفسر حالة الهبوط في أسعار النفط و استمرار العمليات العسكرية ضد التنظيم الإرهابي.


دراما الروبل الروسي


انهيار أسعار النفط اضافة الى العقوبات الاقتصادية التي يفرضها الغرب على روسيا، ألحقت أكبر ضرر بإقتصادها. وقد ساهم هذا الوضع في اضعاف ثقة المستثمرين في اقتصاد البلاد، حيث باشروا بسحب رؤوس اموالهم بشكل جماعي منها، بلغت حسب التوقعات 130 مليار دولار، مما خلق حالة من الفوضى سببت تدهورا كبيرا للعملة الروسية وحالة من القلق في الأوساط الشعبية ولدى قطاع الأعمال. فسجل الروبل أكبر خسارة له و انخفضت قيمته بنسبة تزيد عن 65%، إذ وصل سعر الدولار الواحد 80 روبلا في منتصف ديسمبر كانون الاول بعد أن كان سعره منذ أسبوعين فقط يساوى 35 روبلا.


ويحاول البنك المركزي الروسي إقامة توازن بين العرض والطلب في سوق الصرف، واتخذت السلطات إجراءات شملت رفع أسعار الفائدة إلى 17% وتقديم السيولة بالعملات الصعبة إلى المصارف عبر آليات خاصة كالرهون أو الإقراض بهدف إشباع حاجة السوق من العملات الصعبة. ووفقاً للتقارير فقد أنفق بنك روسيا المركزي نحو 11,3 مليار دولار لدعم عملتها الوطنية. ومن الواضح أن هذا الدعم غير مستدام وهو إجراء قد يساهم في تحقيق استقرار نسبي على المدى القصير، لكنه لن يفلح في وقف التدهور. في الواقع ان احتياطيات النقد الأجنبي الروسية ضخمة جدا، ولكنها على كل حال محدودة. وهناك تكهنات بإقدام البنك المركزي بتوظيف جزء من احتياط الذهب لديه في سبيل إستقرار الروبل، لكنها حلول جزئية وقاصرة لم تكلل بالنجاح ولن تنقذ الروبل. خاصة اذا ما علمنا أن الاقتصاد الروسي اقتصاد نفطي حيث تشكل صادرات النفط والغاز أكثر من 75% من إجمالي الصادرات الروسية، وتوفر موارد الطاقة حوالي 50% من إيرادات الميزانية الفيدرالية.


الجدير بالذكر أن الأزمة الروسية قد طالت الجميع بما فيهم الشركات والبنوك الأجنبية الفاعلة في روسيا وجميعهم يعانون من وطأتها. إضافة إلى ذلك، فإن خطر إنتقال العدوى يهدد أسواق البلدان الناشئة مثل تركيا والبرازيل والهند، حيث بدأ المستثمرين هناك بسحب أموالهم. ويتجلى ذلك من خلال تراجع أسعار الصرف في اسواق المال في تلك البلدان. ويرى الخبراء أن الوضع حرج جدا، حيث يقول الخبير الاقتصادي الالماني هانز فيرنر سين – رئيس معهد ايفو ifo في ميونيخ ” إن احتمال انهيار الاقتصاد الروسي خطر قائم في الفضاء، ويعتبر ذلك في حد ذاته تهديد مباشر للاستقرار السياسي والاقتصادي في أوروبا“. وعليه فإن تحركات وآلاعيب بوتين ” المصاب بالابتعاد عن الواقع ” لا تعني انخفاض معدل النمو فحسب، بل وأيضا عملة أكثر ضعفا. وهو واقع سيدفع إلى ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية المستوردة، واشتداد حدة الآثار السلبية على المستهليكن الروس. فهل سيجعل

ذلك رئيسهم بالعودة إلى عالمنا الواقعي؟


ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي


ساعدت السياسة النقدية التحفيزية للبنك المركزي الأمريكي) مجلس الاحتياطي الفيدرالي(fed الدولار الامريكي على تعزيز مكاسبه وقوته مقابل العملات الاجنبية بما فيها اليورو. فقد ازداد قيمته في الأشهر الستة الماضية بمقدار عشرة في المئة ويتوقع الخبراء استمرار هذا الاتجاه في التصاعد حتى في عام 2015.


هناك دلائل قوية تشير الى تحسن أداء الاقتصاد الأمريكي. منها تراجع معدلات البطالة إلى أدنى مستوى لها، و تقليص المستثمرين رهاناتهم على تراجع الدولار الأمريكي، وكذلك إصرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي على إنتهاج برنامجه التحفيزي و على خياراته بتقليص شراء السندات المالية. وقد يدفع هذا الوضع الناشئ، البنك المركزي إلى رفع أسعار الفائدة. وهو أمر سويَّ، لكنه يمثل كارثة حقيقية لإقتصادات الأسواق الناشئة. وقد بدأ من الآن دق ناقوس الخطر من ان دولاراً قوياً لا يهدد فقط الأسواق الناشئة انما كذلك الشركات التي تتوجب عليها ديون كبيرة بالعملة الأميركية. لذلك، فإن دولاراً قوياً يشكل خطراً على الاستقرار المالي العالمي ويوحي بأزمة ديون كبيرة في الاقتصادات الناشئة. وقد يكون ذلك تكراراً لسيناريو ارتفاع اسعار الدولار في الماضي، عندما انعكس ارتفاعه في منتصف التسعينات في سقوط دول «النمور الآسيوية» كأحجار الدومينو. وعلى سبيل المثال، إذا ما أخذنا الصين وحدها نراها مديونة بقيمة 1,1 تريليون دولار على رغم انها ثاني أكبر اقتصاد في العالم ولديها ما قيمته 4 تريليون دولار احتياط. وهو بمثابة درع واق في الأزمات ولكنّ الصين تعلم علم اليقين ما حدث في آسيا عام 1997-1998 عندما سقطت الحكومات واحدة تلو الأخرى لعدم قدرتها على دفع ديونها. هذا الدرع الواقي من الاحتياط هو أقلّ سماكة في روسيا، والتي لديها 361 بليون دولار احتياط، وديون خارجية بلغت 668 بليون دولار. كذلك هي الحال في البرازيل حيث بلغت قيمة الاحتياط 375 مليار دولار مقابل ديون بلغت 468 مليار دولار.

وحسب الاحصاءات فإن 63 في المئة من الديون الدولية هي بالدولار مقابل 19 في المئة فقط باليورو. بعبارة أخرى، الدولار هو المسيطر الدائم على الاقتصاد العالمي، و يمكن ان تسبب قوة الدولار مشكلة كبيرة في العالم كله. لذلك، وحسب المنطق الاقتصادي السليم، ان تزايد قوة الدولار يشكل ضغوطاً كبيرة على العملات الوطنية وعلى الشركات المستدينة بالدولار الأميركي. والمقترضين الذين استدانوا منذ الأزمة المالية العالمية عندما كان الدولار رخيصاً نراهم اليوم يواجهون صعوبات جمة، وقد لا يكون في استطاعتهم سداد ديونهم.


لذلك يمكن التكهّن بأن تواجه الأسواق الناشئة نكسة كبيرة في شأن قيمة هذه الديون وخدمتها. وهذه التكهنات مخيبة للآمال، لا سيما أن عملات اليورو والين والروبل بدأت تراجعها أمام العملة الخضراء.


الوضع السياسي المضطرب في اليونان


لقد أثار قرار سابق لرئيس الوزراء اليوناني أنطونيو ساماراس تقديم موعد الانتخابات الرئاسية بدلا من شباط فبراير 2015، والهادف الى استعادة الاستقرار السياسي، أثار الذعر في صفوف المستثمرين، وهز أركان البورصة. يبدو كان لهذا الذعر ما يبرره. فقد فشل البرلمان اليوناني في نهاية شهر ديسمبر بإنتخاب ستافروس ديماس رئيسا جديداً للبلاد. وبذلك فُتحت أبواب يونان على مصراعيها امام دخولها في دوامة من الفوضى والاضطرابات السياسية. ووفقا للدستور، يجب حل البرلمان في غضون عشرة أيام وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة حتى أوائل فبراير القادم، حيث ترجح استطلاعات الرأي، في هذه الحالة، فوز الائتلاف اليساري المعروف بحزب سيريزا، الذي تعهد بالتخلص من برنامج الإنقاذ الاقتصادي الذي تعول عليه اليونان لتفادي الانهيار المالي.


في الواقع، يحظى تحالف سيريزا بشعبية واسعة في أوساط الشعب اليوناني، وسط تدهور الاحوال المعيشية وارتفاع معدلات البطالة وفقدان الآلاف من الوظائف. ويعد سيريزا الناخبين برفض أداء ديون البلاد التي تبلغ حاليا 177 في المائة من الناتج المحلي الاجمالي، ووقف إجراءات التقشف و إجراء تخفيضات ضريبية ورعاية طبية مجانية للجميع. في الحقيقة، يثير هذا السيناريو قلق المستثمرين ورجال الأعمال والمانحين (البنك المركزي الأوربي وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوربي) الذين ضخوا 240 مليار يورو في الاقتصاد اليوناني المنهك وأن استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي، سيدفع الشركات الى نقل استثماراتها من البلاد نحو الخارج. وهو أمر سيشكل كارثة حقيقية وضربة موجعة لإقتصادها، سيسبب وقوع أزمة قد تخرج اليونان من مجموعة اليورو وتهدد بالتالي وجود منطقة اليورو ذاتها.


هل العالم – وهو على أبواب العام الجديد 2015 مقبل على مرحلة جديدة من مراحل الكساد الكبير، كما حصل في عام 1929؟ وهل سيكون ذلك تاريخ البداية لنهاية اليورو والاتحاد الأوروبي على الاقل كما نعرفه بشكله الحالي؟

* دكتوراه في الاقتصاد من جامعة الاقتصاد في صوفيا.

آخر التحديثات
  • أتبعني على تويتر

  • تابعونا على الفيسبوك